فصل في فقه هذه القصة
ففيها : جواز . دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين
[ ص: 558 ] وفيها : أيضا إذا كان ذلك عارضا ، ولا يمكنون من اعتياد ذلك . تمكين أهل الكتاب من صلاتهم بحضرة المسلمين وفي مساجدهم
وفيها : أن إقرار الكاهن الكتابي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه نبي لا يدخله في الإسلام ما لم يلتزم طاعته ومتابعته ، فإذا تمسك بدينه بعد هذا الإقرار لا يكون ردة منه ، ونظير هذا قول الحبرين له ، وقد سألاه عن ثلاث مسائل ، فلما أجابهما اليهود ، ولم يلزمهما بذلك الإسلام . ونظير ذلك شهادة عمه ، قالا : نشهد أنك نبي قال : ( فما يمنعكما من اتباعي ؟ ) ، قالا : نخاف أن تقتلنا أبي طالب له بأنه صادق ، وأن دينه من خير أديان البرية دينا ، ولم تدخله هذه الشهادة في الإسلام .
ومن تأمل ما في السير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة ، وأنه صادق ، فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام ، علم أن الإسلام أمر وراء ذلك ، وأنه ليس هو المعرفة فقط ، ولا المعرفة والإقرار فقط ، بل المعرفة والإقرار والانقياد والتزام طاعته ودينه ظاهرا وباطنا .
وقد اختلف أئمة الإسلام في ؟ على ثلاثة أقوال ، وهي ثلاث روايات عن الكافر إذا قال : أشهد أن محمدا رسول الله ولم يزد ، هل يحكم بإسلامه بذلك ، إحداها : يحكم بإسلامه بذلك . والثانية : لا يحكم بإسلامه حتى يأتي بشهادة أن لا إله إلا الله . والثالثة : أنه إذا كان مقرا بالتوحيد حكم بإسلامه ، وإن لم يكن مقرا لم يحكم بإسلامه حتى يأتي به ، وليس هذا موضع استيفاء هذه المسألة ، وإنما أشرنا إليه إشارة ، وأهل الكتابين مجمعون على أن نبيا يخرج في آخر الزمان ، وهم ينتظرونه ، ولا يشك علماؤهم في أنه الإمام أحمد محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، وإنما يمنعهم من الدخول في الإسلام رئاستهم على قومهم وخضوعهم لهم ، وما ينالونه منهم من المال والجاه .
ومنها : جواز ، بل استحباب ذلك ، بل وجوبه إذا ظهرت مصلحته من إسلام من يرجى إسلامه منهم ، وإقامة الحجة [ ص: 559 ] عليهم ولا يهرب من مجادلتهم إلا عاجز عن إقامة الحجة ، فليول ذلك إلى أهله ، وليخل بين المطي وحاديها ، والقوس وباريها ، ولولا خشية الإطالة لذكرنا من الحجج التي تلزم أهل الكتابين الإقرار بأنه رسول الله بما في كتبهم ، وبما يعتقدونه بما لا يمكنهم دفعه ما يزيد على مائة طريق ، ونرجو من الله سبحانه إفرادها بمصنف مستقل . مجادلة أهل الكتاب ومناظرتهم
ودار بيني وبين بعض علمائهم مناظرة في ذلك ، فقلت له في أثناء الكلام : ولا يتم لكم القدح في نبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم - إلا بالطعن في الرب تعالى والقدح فيه ، ونسبته إلى أعظم الظلم والسفه والفساد ، تعالى الله عن ذلك ، فقال كيف يلزمنا ذلك ؟
قلت : بل أبلغ من ذلك ، لا يتم لكم ذلك إلا بجحوده وإنكار وجوده تعالى ، وبيان ذلك أنه إذا كان محمد عندكم ليس بنبي صادق ، وهو بزعمكم ملك ظالم ، فقد تهيأ له أن يفتري على الله ، ويتقول عليه ما لم يقله ، ثم يتم له ذلك ، ويستمر حتى يحلل ويحرم ، ويفرض الفرائض ، ويشرع الشرائع ، وينسخ الملل ، ويضرب الرقاب ، ويقتل أتباع الرسل ، وهم أهل الحق ، ويسبي نساءهم وأولادهم ، ويغنم أموالهم وديارهم ، ويتم له ذلك حتى يفتح الأرض ، وينسب ذلك كله إلى أمر الله تعالى له به ومحبته له ، والرب تعالى يشاهده ، وما يفعل بأهل الحق وأتباع الرسل ، وهو مستمر في الافتراء عليه ثلاثا وعشرين سنة ، وهو مع ذلك كله يؤيده وينصره ، ويعلي أمره ، ويمكن له من أسباب النصر الخارجة عن عادة البشر ، وأعجب من ذلك أنه يجيب دعواته ، ويهلك أعداءه من غير فعل منه نفسه ولا سبب ، بل تارة بدعائه ، وتارة يستأصلهم سبحانه من غير دعاء منه - صلى الله عليه وسلم .
ومع ذلك يقضي له كل حاجة سأله إياها ، ويعده كل وعد جميل ، ثم ينجز له وعده على أتم الوجوه وأهنئها وأكملها ، هذا وهو عندكم في غاية الكذب والافتراء والظلم ، فإنه لا أكذب ممن كذب على الله ، واستمر على ذلك ، ولا أظلم ممن أبطل شرائع أنبيائه ورسله ، وسعى في رفعها من الأرض ، وتبديلها بما يريد هو ، وقتل أولياءه وحزبه وأتباع رسله ، واستمرت نصرته عليهم دائما ، والله تعالى في ذلك كله [ ص: 560 ] يقره ، ولا يأخذ منه باليمين ، ولا يقطع منه الوتين ، وهو يخبر عن ربه أنه أوحى إليه أنه لا ( أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ) [ الأنعام : 93 ] ، فيلزمكم معاشر من كذبه أحد أمرين لا بد لكم منهما :
إما أن تقولوا : لا صانع للعالم ، ولا مدبر ، ولو كان للعالم صانع مدبر قدير حكيم ، لأخذ على يديه ، ولقابله أعظم مقابلة ، وجعله نكالا للظالمين ، إذ لا يليق بالملوك غير هذا ، فكيف بملك السماوات والأرض ، وأحكم الحاكمين ؟ .
الثاني : نسبة الرب إلى ما لا يليق به من الجور والسفه والظلم وإضلال الخلق دائما أبد الآباد ، لا ، بل نصرة الكاذب والتمكين له من الأرض ، وإجابة دعواته ، وقيام أمره من بعده ، وإعلاء كلماته دائما ، وإظهار دعوته ، والشهادة له بالنبوة قرنا بعد قرن على رءوس الأشهاد في كل مجمع وناد ، فأين هذا من فعل أحكم الحاكمين ، وأرحم الراحمين ، فلقد قدحتم في رب العالمين أعظم قدح ، وطعنتم فيه أشد طعن ، وأنكرتموه بالكلية ، ونحن لا ننكر أن كثيرا من الكذابين قام في الوجود ، وظهرت له شوكة ، ولكن لم يتم له أمره ، ولم تطل مدته ، بل سلط عليه رسله وأتباعهم فمحقوا أثره ، وقطعوا دابره ، واستأصلوا شأفته . هذه سنته في عباده منذ قامت الدنيا وإلى أن يرث الأرض ومن عليها .
فلما سمع مني هذا الكلام ، قال : معاذ الله أن نقول إنه ظالم أو كاذب ، بل كل منصف من أهل الكتاب يقر بأن من سلك طريقه ، واقتفى أثره ، فهو من أهل النجاة والسعادة في الأخرى . قلت له : فكيف يكون سالك طريق الكذاب ، ومقتفي أثره بزعمكم من أهل النجاة والسعادة ؟ فلم يجد بدا من الاعتراف برسالته ، ولكن لم يرسل إليهم .
قلت : فقد لزمك تصديقه ، ولا بد وهو قد تواترت عنه الأخبار بأنه رسول رب العالمين إلى الناس أجمعين ، كتابيهم وأميهم ، ودعا أهل الكتاب إلى دينه [ ص: 561 ] وقاتل من لم يدخل في دينه منهم حتى أقروا بالصغار والجزية ، فبهت الكافر ، ونهض من فوره .
والمقصود : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يزل في جدال الكفار على اختلاف مللهم ونحلهم إلى أن توفي ، وكذلك أصحابه من بعده ، وقد أمره الله سبحانه بجدالهم بالتي هي أحسن في السورة المكية والمدنية ، وأمره أن يدعوهم بعد ظهور الحجة إلى المباهلة ، وبهذا قام الدين ، وإنما جعل السيف ناصرا للحجة ، وأعدل السيوف سيف ينصر حجج الله وبيناته ، وهو سيف رسوله وأمته .