وقوله " فيظل يضحك " هو من صفات أفعاله سبحانه وتعالى  التي لا يشبهه فيها شيء من مخلوقاته كصفات ذاته ، وقد وردت هذه الصفة في أحاديث كثيرة لا سبيل إلى ردها ، كما لا سبيل إلى تشبيهها وتحريفها وكذلك " فأصبح ربك يطوف في الأرض " هو من صفات فعله كقوله ( وجاء ربك والملك   ) ( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك   ) ( وينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا  ) ، ( ويدنو عشية عرفة  فيباهي بأهل الموقف الملائكة  ) ، والكلام في الجميع صراط واحد مستقيم إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تحريف ولا تعطيل . 
وقوله " والملائكة الذين عند ربك " : لا أعلم موت الملائكة جاء في حديث صريح إلا هذا وحديث إسماعيل بن رافع الطويل  وهو حديث الصور  [ ص: 594 ] وقد يستدل عليه بقوله تعالى : ( ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله   ) [ الزمر 68 ] . 
وقوله ( فلعمر إلهك  ) هو قسم بحياة الرب جل جلاله وفيه دليل على جواز الإقسام بصفاته  وانعقاد اليمين بها ، وأنها قديمة وأنه يطلق عليه منها أسماء المصادر ، ويوصف بها ، وذلك قدر زائد على مجرد الأسماء ، وأن الأسماء الحسنى مشتقة من هذه المصادر دالة عليها . 
وقوله ( ثم تجيء الصائحة  ) هي صيحة البعث ونفخته . 
وقوله ( حتى يخلفه من عند رأسه  ) هو من أخلف الزرع إذا نبت بعد حصاده شبه النشأة الآخرة بعد الموت بإخلاف الزرع بعد ما حصد ، وتلك الخلفة من عند رأسه كما ينبت الزرع . 
وقوله ( فيستوي جالسا ) هذا عند تمام خلقته وكمال حياته ، ثم يقوم بعد جلوسه قائما ، ثم يساق إلى موقف القيامة إما راكبا وإما ماشيا . 
وقوله ( يقول : يا رب أمس ، اليوم  ) استقلال لمدة لبثه في الأرض ، كأنه لبث فيها يوما ، فقال : أمس أو بعض يوم ، فقال : اليوم يحسب أنه حديث عهد بأهله وأنه إنما فارقهم أمس أو اليوم . 
وقوله ( كيف يجمعنا بعد ما تمرقنا الرياح والبلى والسباع  ) وإقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم له على هذا السؤال رد على من زعم أن القوم لم يكونوا يخوضون في دقائق المسائل ولم يكونوا يفهمون حقائق الإيمان ، بل كانوا مشغولين بالعمليات ، وأن أفراخ الصابئة والمجوس من الجهمية والمعتزلة والقدرية أعرف منهم بالعلميات . 
وفيه دليل على أنه كانوا يوردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يشكل عليهم من الأسئلة والشبهات ، فيجيبهم عنها بما يثلج صدورهم ، وقد أورد عليه صلى الله عليه وسلم الأسئلة أعداؤه وأصحابه ، أعداؤه للتعنت والمغالبة ، وأصحابه : للفهم والبيان وزيادة الإيمان ، وهو يجيب كلا عن سؤاله إلا ما لا جواب عنه كسؤاله عن وقت  [ ص: 595 ] الساعة ، وفي هذا السؤال دليل على أنه سبحانه يجمع أجزاء العبد بعدما فرقها وينشئها نشأة أخرى ، ويخلقه خلقا جديدا كما سماه في كتابه ، كذلك في موضعين منه . وقوله : " أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله " آلاؤه : نعمه وآياته التي تعرف بها إلى عباده . 
وفيه إثبات القياس في أدلة التوحيد والمعاد ، والقرآن مملوء منه . 
وفيه أن حكم الشيء حكم نظيره ، وأنه سبحانه إذا كان قادرا على شيء فكيف تعجز قدرته عن نظيره ومثله ؟ فقد قرر الله سبحانه أدلة المعاد في كتابه أحسن تقرير ، وأبينه وأبلغه وأوصله إلى العقول والفطر ، فأبى أعداؤه الجاحدون إلا تكذيبا له وتعجيزا له ، وطعنا في حكمته ، تعالى عما يقولون علوا كبيرا . 
وقوله في الأرض ( أشرفت عليها وهي مدرة بالية  ) هو كقوله تعالى : ( ويحيي الأرض بعد موتها   ) [ الروم : 19 ] . وقوله ( ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت   ) [ فصلت 39 ] ونظائره في القرآن كثيرة . 
وقوله ( فتنظرون إليه وينظر إليكم  ) فيه إثبات صفة النظر لله عز وجل  ، وإثبات رؤيته في الآخرة   . وقوله " كيف ونحن ملء الأرض وهو شخص واحد " قد جاء هذا في هذا الحديث . 
وفي قوله في حديث آخر ( لا شخص أغير من الله  ) والمخاطبون بهذا قوم عرب يعلمون المراد منه ولا يقع في قلوبهم تشبيهه سبحانه بالأشخاص ، بل هم أشرف عقولا وأصح أذهانا ، وأسلم قلوبا من ذلك ، وحقق صلى الله عليه وسلم وقوع الرؤية عيانا برؤية الشمس والقمر تحقيقا لها ، ونفيا لتوهم المجاز الذي يظنه المعطلون . 
وقوله ( فيأخذ ربك بيده غرفة من الماء فينضح بها قبلكم  ) فيه إثبات صفة  [ ص: 596 ] اليد له سبحانه  بقوله وإثبات الفعل الذي هو النضح . والريطة : الملاءة . والحمم : جمع حممة وهي الفحمة . 
وقوله ( ثم ينصرف نبيكم  ) هذا انصراف من موقف القيامة إلى الجنة . 
وقوله ( ويفرق على أثره الصالحون  ) أي يفزعون ويمضون على أثره . 
وقوله ( فتطلعون على حوض نبيكم  ) ظاهر هذا أن الحوض من وراء الجسر فكأنهم لا يصلون إليه حتى يقطعوا الجسر ، وللسلف في ذلك قولان حكاهما القرطبي  في " تذكرته "  والغزالي  وغلطا من قال : إنه بعد الجسر ، وقد روى  البخاري   : عن  أبي هريرة   . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( بينا أنا قائم على الحوض إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال لهم : هلم ، فقلت : إلى أين ؟ فقال : إلى النار والله ، قلت : ما شأنهم ؟ قال : إنهم ارتدوا على أدبارهم ، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم  ) . 
قال : فهذا الحديث مع صحته أدل دليل على أن الحوض يكون في الموقف قبل الصراط ؛ لأن الصراط إنما هو جسر ممدود على جهنم ، فمن جازه سلم من النار . 
قلت : وليس بين أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تعارض ولا تناقض ولا اختلاف وحديثه كله يصدق بعضه بعضا ، وأصحاب هذا القول إن أرادوا أن الحوض لا يرى ولا يوصل إليه إلا بعد قطع الصراط ، فحديث  أبي هريرة  هذا وغيره يرد قولهم ، وإن أرادوا أن المؤمنين إذا جازوا الصراط وقطعوه بدا لهم الحوض فشربوا منه ، فهذا يدل عليه حديث لقيط  هذا ، وهو لا يناقض كونه قبل الصراط ، فإن قوله طوله شهر ، وعرضه شهر ، فإذا كان بهذا الطول والسعة ، فما الذي يحيل امتداده إلى وراء الجسر ، فيرده المؤمنون قبل الصراط وبعده ، فهذا في حيز الإمكان ، ووقوعه موقوف على خبر الصادق والله أعلم . 
وقوله (  - والله على أظمأ - ناهلة قط  ) الناهلة العطاش الواردون  [ ص: 597 ] الماء أي يردونه أظمأ ما هم إليه ، وهذا يناسب أن يكون بعد الصراط ، فإنه جسر النار وقد وردوها كلهم ، فلما قطعوه اشتد ظمؤهم إلى الماء فوردوا حوضه صلى الله عليه وسلم كما وردوه في موقف القيامة . 
وقوله ( تخنس الشمس والقمر  ) أي تختفيان فتحتبسان ولا يريان . والاختناس التواري والاختفاء . ومنه قول  أبي هريرة  فانخنست منه . 
وقوله ( ما بين البابين مسيرة سبعين عاما  ) يحتمل أن يريد به أن ما بين الباب والباب هذا المقدار ، ويحتمل أن يريد بالبابين المصراعين ، ولا يناقض هذا ما جاء من تقديره بأربعين عاما لوجهين : 
أحدهما : إنه لم يصرح فيه راويه بالرفع بل قال : ولقد ذكر لنا أن ما بين المصراعين مسيرة أربعين عاما . والثاني : أن المسافة تختلف باختلاف سرعة السير فيها وبطئه والله أعلم . 
وقوله ( في خمر الجنة أنه ما بها صداع ولا ندامة  ) تعريض بخمر الدنيا وما يلحقها من صداع الرأس ، والندامة على ذهاب العقل والمال ، وحصول الشر الذي يوجبه زوال العقل . والماء غير الآسن هو الذي لم يتغير بطول مكثه . 
وقوله في نساء أهل الجنة ( غير أن لا توالد ) قد اختلف الناس ، هل تلد نساء أهل الجنة ؟ على قولين : 
فقالت طائفة : لا يكون فيها حبل ولا ولادة ، واحتجت هذه الطائفة بهذا الحديث وبحديث آخر أظنه في " المسند " وفيه : ( غير أن لا مني ولا منية  ) وأثبتت طائفة من السلف الولادة في  [ ص: 598 ] الجنة ، واحتجت بما رواه  الترمذي  في " جامعه " من حديث أبي الصديق الناجي  عن أبي سعيد  ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة  كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي  ) قال  الترمذي  حسن غريب ، ورواه  ابن ماجه   . 
قالت الطائفة الأولى : هذا لا يدل على وقوع الولادة في الجنة فإنه علقه بالشرط ، فقال : إذا اشتهى ولكنه لا يشتهي ، وهذا تأويل  إسحاق بن راهويه  حكاه  البخاري  عنه . قالوا : والجنة دار جزاء على الأعمال ، وهؤلاء ليسوا من أهل الجزاء ، قالوا : والجنة دار خلود لا موت فيها ، فلو توالد فيها أهلها على الدوام والأبد لما وسعتهم ، وإنما وسعتهم الدنيا بالموت . 
وأجابت الطائفة الأخرى عن ذلك كله وقالت " إذا " إنما تكون لمحقق الوقوع لا المشكوك فيه ، وقد صح أنه سبحانه ينشئ للجنة خلقا يسكنهم إياها بلا عمل منهم ، قالوا : وأطفال المسلمين أيضا فيها بغير عمل . 
وأما حديث سعتها : فلو رزق كل واحد منهم عشرة آلاف من الولد وسعتهم ، فإن أدناهم من ينظر في ملكه مسيرة ألفي عام . 
وقوله ( يا رسول الله أقصى ما نحن بالغون ومنتهون إليه  ) لا جواب لهذه المسألة ؛ لأنه إن أراد أقصى مدة الدنيا وانتهائها فلا يعلمه إلا الله ، وإن أراد أقصى ما نحن منتهون إليه بعد دخول الجنة والنار ، فلا تعلم نفس أقصى ما ينتهي إليه من ذلك ، وإن كان الانتهاء إلى نعيم وجحيم ولهذا لم يجبه النبي صلى الله عليه وسلم . 
وقوله في عقد البيعة ( وزيال المشرك  ) أي مفارقته ومعاداته فلا  [ ص: 599 ] يجاوره ولا يواليه كما جاء في الحديث الذي في السنن ( لا تراءى ناراهما  ) يعني المسلمين والمشركين . 
وقوله ( حيثما مررت بقبر كافر فقل أرسلني إليك محمد   ) هذا إرسال تقريع وتوبيخ لا تبليغ أمر ونهي ، وفيه دليل على سماع أصحاب أهل القبور كلام الأحياء وخطابهم لهم ، ودليل على أن من مات مشركا فهو في النار  ، وإن مات قبل البعثة ؛ لأن المشركين كانوا قد غيروا الحنيفية دين إبراهيم  واستبدلوا بها الشرك وارتكبوه ، وليس معهم حجة من الله به ، وقبحه والوعيد عليه بالنار لم يزل معلوما من دين الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم ، وأخبار عقوبات الله لأهله متداولة بين الأمم قرنا بعد قرن ، فلله الحجة البالغة على المشركين في كل وقت ، ولو لم يكن إلا ما فطر عباده عليه من توحيد ربوبيته المستلزم لتوحيد إلهيته ، وأنه يستحيل في كل فطرة وعقل أن يكون معه إله آخر ، وإن كان سبحانه لا يعذب بمقتضى هذه الفطرة وحدها ، فلم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد في الأرض معلومة لأهلها ، فالمشرك يستحق العذاب بمخالفته دعوة الرسل والله أعلم . 
				
						
						
