فصل
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم للأمة في نهيه عن الدخول إلى الأرض التي هو بها ، ونهيه عن الخروج منها بعد وقوعه كمال التحرز منه ، فإن في تعرضا للبلاء ، وموافاة له في محل سلطانه ، وإعانة للإنسان على نفسه ، وهذا مخالف للشرع والعقل ، بل تجنب الدخول إلى أرضه من باب الحمية التي أرشد الله سبحانه إليها ، وهي حمية عن الأمكنة ، والأهوية المؤذية . الدخول في الأرض التي هو بها
وأما نهيه عن الخروج من بلده ، ففيه معنيان :
أحدهما : حمل النفوس على الثقة بالله ، والتوكل عليه والصبر على أقضيته والرضا بها .
والثاني : ما قاله أئمة الطب : أنه يجب على كل محترز من الوباء أن يخرج [ ص: 40 ] عن بدنه الرطوبات الفضلية ، ويقلل الغذاء ويميل إلى التدبير المجفف من كل وجه إلا الرياضة والحمام ، فإنهما مما يجب أن يحذرا ؛ لأن البدن لا يخلو غالبا من فضل رديء كامن فيه ، فتثيره الرياضة والحمام ، ويخلطانه بالكيموس الجيد ، وذلك يجلب علة عظيمة بل يجب عند وقوع الطاعون السكون والدعة ، وتسكين هيجان الأخلاط ، ولا يمكن الخروج من أرض الوباء والسفر منها إلا بحركة شديدة ، وهي مضرة جدا . هذا كلام أفضل الأطباء المتأخرين ، فظهر المعنى الطبي من الحديث النبوي ، وما فيه من علاج القلب والبدن وصلاحهما .
فإن قيل : ففي قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تخرجوا فرارا منه ) ، ما يبطل أن يكون أراد هذا المعنى الذي ذكرتموه ، وأنه لا يمنع الخروج لعارض ولا يحبس مسافرا عن سفره ؟ قيل : لم يقل أحد طبيب ولا غيره : إن الناس يتركون حركاتهم عند الطواعين ويصيرون بمنزلة الجمادات ، وإنما ينبغي فيه التقلل من الحركة بحسب الإمكان ، والفار منه لا موجب لحركته إلا مجرد الفرار منه ، ودعته وسكونه أنفع لقلبه وبدنه وأقرب إلى توكله على الله تعالى واستسلامه لقضائه . وأما من لا يستغني عن الحركة كالصناع والأجراء والمسافرين والبرد وغيرهم فلا يقال لهم : اتركوا حركاتكم جملة ، وإن أمروا أن يتركوا منها ما لا حاجة لهم إليه كحركة المسافر فارا منه ، والله تعالى أعلم .
وفي المنع من الدخول إلى الأرض التي قد وقع بها عدة حكم :
أحدها : تجنب الأسباب المؤذية والبعد منها .
الثاني : الأخذ بالعافية التي هي مادة المعاش والمعاد .
الثالث : أن لا يستنشقوا الهواء الذي قد عفن وفسد فيمرضون .
[ ص: 41 ] الرابع : أن لا يجاوروا المرضى الذين قد مرضوا بذلك فيحصل لهم بمجاورتهم من جنس أمراضهم .
وفي " سنن أبي داود " مرفوعا : ( ) . إن من القرف التلف
قال : القرف مداناة الوباء ، ومداناة المرضى . ابن قتيبة
الخامس : حمية النفوس عن الطيرة والعدوى فإنها تتأثر بهما ، فإن الطيرة على من تطير بها ، وبالجملة ففي النهي عن الدخول في أرضه الأمر بالحذر والحمية والنهي عن التعرض لأسباب التلف . وفي النهي عن الفرار منه الأمر بالتوكل ، والتسليم ، والتفويض ، فالأول : تأديب وتعليم ، والثاني : تفويض وتسليم .
وفي الصحيح : ( عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع أبو عبيدة بن الجراح بالشام ، فاختلفوا فقال : ادع لي المهاجرين الأولين ، قال : فدعوتهم فاستشارهم ، وأخبرهم أن الوباء قد وقع لابن عباس بالشام فاختلفوا ، فقال له بعضهم : خرجت لأمر فلا نرى أن ترجع عنه . وقال آخرون معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء ، فقال عمر : ارتفعوا عني ، ثم قال : ادع لي الأنصار فدعوتهم له فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم ، فقال : ارتفعوا عني ، ثم قال : ادع لي من هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فدعوتهم له فلم يختلف عليه منهم رجلان ، قالوا : نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء ، فأذن عمر في الناس إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه ، فقال : يا أمير المؤمنين أفرارا من قدر الله تعالى ؟ قال : لو غيرك قالها يا أبو عبيدة بن الجراح أبا عبيدة ، نعم نفر من قدر الله تعالى إلى قدر الله [ ص: 42 ] تعالى أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له عدوتان إحداهما - خصبة ، والأخرى جدبة ، ألست إن رعيتها الخصبة رعيتها بقدر الله تعالى ، وإن رعيتها الجدبة رعيتها بقدر الله تعالى ؟ قال : فجاء وكان متغيبا في بعض حاجاته ، فقال : إن عندي في هذا علما ، سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه عبد الرحمن بن عوف ) . أن