فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج ذات الجنب
روى في " جامعه " من حديث الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( زيد بن أرقم ) تداووا من ذات الجنب بالقسط البحري والزيت
وذات الجنب عند الأطباء نوعان : حقيقي وغير حقيقي . فالحقيقي ورم حار يعرض في نواحي الجنب في الغشاء المستبطن للأضلاع . وغير الحقيقي : ألم يشبهه يعرض في نواحي الجنب عن رياح غليظة مؤذية تحتقن بين الصفاقات ، [ ص: 75 ] فتحدث وجعا قريبا من وجع ذات الجنب الحقيقي ، إلا أن الوجع في هذا القسم ممدود ، وفي الحقيقي ناخس .
قال صاحب " القانون " : قد يعرض في الجنب والصفاقات ، والعضل التي في الصدر والأضلاع ونواحيها أورام مؤذية جدا موجعة تسمى شوصة وبرساما وذات الجنب . وقد تكون أيضا أوجاعا في هذه الأعضاء ليست من ورم ، ولكن من رياح غليظة ، فيظن أنها من هذه العلة ولا تكون منها .
قال : واعلم أن كل وجع في الجنب قد يسمى ذات الجنب اشتقاقا من مكان الألم ؛ لأن معنى ذات الجنب صاحبة الجنب ، والغرض به هاهنا وجع الجنب فإذا عرض في الجنب ألم عن أي سبب كان نسب إليه ، وعليه حمل كلام بقراط في قوله : إن أصحاب ذات الجنب ينتفعون بالحمام . قيل : المراد به كل من به وجع جنب ، أو وجع رئة من سوء مزاج ، أو من أخلاط غليظة ، أو لذاعة من غير ورم ولا حمى .
قال بعض الأطباء : وأما معنى ذات الجنب في لغة اليونان : فهو ورم الجنب الحار ، وكذلك ورم كل واحد من الأعضاء الباطنة ، وإنما سمي ذات الجنب ورم ذلك العضو إذا كان ورما حارا فقط .
ويلزم ذات الجنب الحقيقي خمسة أعراض : وهي الحمى والسعال والوجع الناخس وضيق النفس والنبض المنشاري .
والعلاج الموجود في الحديث ، ليس هو لهذا القسم ، لكن للقسم الثاني الكائن عن الريح الغليظة ، فإن القسط البحري - وهو العود الهندي على ما جاء مفسرا في أحاديث أخر - صنف من القسط إذا دق دقا ناعما ، وخلط بالزيت المسخن ، ودلك به مكان الريح المذكور ، أو لعق كان دواء موافقا لذلك نافعا [ ص: 76 ] له محللا لمادته مذهبا لها مقويا للأعضاء الباطنة ، مفتحا للسدد ، والعود المذكور في منافعه كذلك .
قال المسبحي : العود حار يابس قابض يحبس البطن ويقوي الأعضاء الباطنة ، ويطرد الريح ويفتح السدد ، نافع من ذات الجنب ، ويذهب فضل الرطوبة ، والعود المذكور جيد للدماغ . قال : ويجوز أن ينفع القسط من ذات الجنب الحقيقية أيضا إذا كان حدوثها عن مادة بلغمية لا سيما في وقت انحطاط العلة ، والله أعلم .
وذات الجنب من الأمراض الخطرة ، وفي الحديث الصحيح عن أنها قالت : بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرضه في بيت أم سلمة ميمونة ، وكان كلما خف عليه ، خرج وصلى بالناس ، وكان كلما وجد ثقلا قال : ( أبا بكر فليصل بالناس " واشتد شكواه حتى غمر عليه من شدة الوجع ، فاجتمع عنده نساؤه وعمه العباس وأم الفضل بنت الحارث ، فتشاوروا في لده ، فلدوه وهو مغمور ، فلما أفاق قال " من فعل بي هذا ؟ هذا من عمل نساء جئن من هاهنا وأشار بيده إلى أرض وأسماء بنت عميس الحبشة ، وكانت وأسماء لدتاه ، فقالوا : يا رسول الله ! خشينا أن يكون بك ذات الجنب . قال : " فبم لددتموني " ؟ قالوا : بالعود الهندي وشيء من ورس وقطرات من زيت . فقال " ما كان الله ليقذفني بذلك الداء " ثم قال : " عزمت عليكم أن لا يبقى في البيت أحد إلا لد إلا عمي أم سلمة العباس ) . مروا
[ ص: 77 ] وفي " الصحيحين " عن رضي الله تعالى عنها قالت : لددنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأشار أن لا تلدوني ، فقلنا : كراهية المريض للدواء ، فلما أفاق قال : ( عائشة العباس ، فإنه لم يشهدكم " ) ألم أنهكم أن تلدوني لا يبقى منكم أحد إلا لد غير عمي
قال أبو عبيد عن الأصمعي : اللدود : ما يسقى الإنسان في أحد شقي الفم ، أخذ من لديدي الوادي ، وهما جانباه . وأما الوجور فهو في وسط الفم .
قلت : واللدود - بالفتح - هو الدواء الذي يلد به . والسعوط ما أدخل من أنفه .
وفي هذا الحديث من الفقه معاقبة الجاني بمثل ما فعل سواء إذا لم يكن فعله محرما لحق الله ، وهذا هو الصواب المقطوع به لبضعة عشر دليلا قد ذكرناها في موضع آخر ، وهو منصوص أحمد ، وهو ثابت عن الخلفاء الراشدين ، وترجمة المسألة بالقصاص في اللطمة والضربة ، وفيها عدة أحاديث لا معارض لها البتة ، فيتعين القول بها .