فصل في هديه - صلى الله عليه وسلم - في التحرز من الأدواء المعدية بطبعها وإرشاده الأصحاء إلى مجانبة أهلها
ثبت في " صحيح " من حديث مسلم أنه ( جابر بن عبد الله ثقيف [ ص: 135 ] رجل مجذوم فأرسل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ارجع فقد بايعناك ) . كان في وفد
وروى في " صحيحه " تعليقا من حديث البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أبي هريرة ) . فر من المجذوم كما تفر من الأسد
وفي " سنن " من حديث ابن ماجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ابن عباس ) . لا تديموا النظر إلى المجذومين
وفي " الصحيحين " من حديث قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أبي هريرة ) . لا يوردن ممرض على مصح
ويذكر عنه - صلى الله عليه وسلم - : ( كلم المجذوم ، وبينك وبينه قيد رمح أو رمحين ) .
[ ص: 136 ] الجذام : علة رديئة تحدث من انتشار المرة السوداء في البدن كله ، فيفسد مزاج الأعضاء وهيئتها وشكلها ، وربما فسد في آخره اتصالها حتى تتأكل الأعضاء وتسقط ، ويسمى داء الأسد .
وفي هذه التسمية ثلاثة أقوال للأطباء :
أحدها : أنها لكثرة ما تعتري الأسد .
والثاني : لأن هذه العلة تجهم وجه صاحبها وتجعله في سحنة الأسد .
والثالث : أنه يفترس من يقربه ، أو يدنو منه بدائه افتراس الأسد .
وهذه العلة عند الأطباء من العلل المعدية المتوارثة ، ومقارب المجذوم ، وصاحب السل يسقم برائحته ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لكمال شفقته على الأمة ، ونصحه لهم ، نهاهم عن الأسباب التي تعرضهم لوصول العيب والفساد إلى أجسامهم وقلوبهم ، ولا ريب أنه قد يكون في البدن تهيؤ واستعداد كامن لقبول هذا الداء ، وقد تكون الطبيعة سريعة الانفعال ، قابلة للاكتساب من أبدان من تجاوره وتخالطه ، فإنها نقالة ، وقد يكون خوفها من ذلك ووهمها من أكبر أسباب إصابة تلك العلة لها ، فإن الوهم فعال مستول على القوى والطبائع ، وقد تصل رائحة العليل إلى الصحيح فتسقمه ، وهذا معاين في بعض الأمراض ، والرائحة أحد أسباب العدوى ، ومع هذا كله فلا بد من وجود استعداد البدن وقبوله لذلك الداء ، وقد [ ص: 137 ] ( ) . تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة فلما أراد الدخول بها ، وجد بكشحها بياضا ، فقال : "الحقي بأهلك "
وقد ظن طائفة من الناس أن هذه الأحاديث معارضة بأحاديث أخر تبطلها وتناقضها ، فمنها : ما رواه من حديث الترمذي جابر ( ) ورواه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيد رجل مجذوم فأدخلها معه في القصعة ، وقال : "كل بسم الله ثقة بالله ، وتوكلا عليه " . ابن ماجه
وبما ثبت في " الصحيح " عن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( أبي هريرة ) . لا عدوى ولا طيرة
ونحن نقول : لا تعارض بحمد الله بين أحاديثه الصحيحة . فإذا وقع التعارض ، فإما أن يكون أحد الحديثين ليس من كلامه - صلى الله عليه وسلم - وقد غلط فيه بعض الرواة مع كونه ثقة ثبتا ، فالثقة يغلط ، أو يكون أحد الحديثين ناسخا للآخر ، إذا كان مما يقبل النسخ ، أو يكون التعارض في فهم السامع ، لا في نفس كلامه - صلى الله عليه وسلم - ، فلا بد من وجه من هذه الوجوه الثلاثة .
وأما حديثان صحيحان صريحان متناقضان من كل وجه ، ليس أحدهما ناسخا للآخر ، فهذا لا يوجد أصلا ، ومعاذ الله أن يوجد في كلام الصادق المصدوق الذي لا يخرج من بين شفتيه إلا الحق ، والآفة من التقصير في معرفة المنقول والتمييز بين صحيحه ومعلوله ، أو من القصور في فهم مراده - صلى الله عليه وسلم - ، [ ص: 138 ] وحمل كلامه على غير ما عناه به ، أو منهما معا ، ومن هاهنا وقع من الاختلاف والفساد ما وقع ، وبالله التوفيق .
قال في كتاب " اختلاف الحديث " له حكاية عن أعداء الحديث ، وأهله قالوا : حديثان متناقضان رويتم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( ابن قتيبة لا عدوى ولا طيرة ) وقيل له : ( ) ثم رويتم ( إن النقبة تقع بمشفر البعير ، فيجرب لذلك الإبل . قال : فما أعدى الأول ) ( لا يورد ذو عاهة على مصح ، وفر من المجذوم فرارك من الأسد ) . وأتاه رجل مجذوم ليبايعه بيعة الإسلام ، فأرسل إليه البيعة ، وأمره بالانصراف ، ولم يأذن له ، وقال : "الشؤم في المرأة والدار والدابة "
قالوا : وهذا كله مختلف لا يشبه بعضه بعضا .
قال أبو محمد : ونحن نقول : إنه ليس في هذا اختلاف ، ولكل معنى منها [ ص: 139 ] وقت وموضع ، فإذا وضع موضعه زال الاختلاف .
والعدوى جنسان :
أحدهما : ، فإن المجذوم تشتد رائحته حتى يسقم من أطال مجالسته ومحادثته ، وكذلك المرأة تكون تحت المجذوم ، فتضاجعه في شعار واحد ، فيوصل إليها الأذى ، وربما جذمت ، وكذلك ولده ينزعون في الكبر إليه ، وكذلك من كان به سل ، ودق ، ونقب ، . والأطباء تأمر أن لا يجالس المسلول ، ولا المجذوم ، ولا يريدون بذلك معنى العدوى ، وإنما يريدون به معنى تغير الرائحة ، وأنها قد تسقم من أطال اشتمامها ، والأطباء أبعد الناس عن الإيمان بيمن وشؤم ، وكذلك النقبة تكون بالبعير - وهو جرب رطب - فإذا خالط الإبل ، أو حاكها وأوى في مباركها ، وصل إليها بالماء الذي يسيل منه ، وبالنطف نحو ما به ، فهذا هو المعنى الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( عدوى الجذام لا يورد ذو عاهة على مصح ) كره أن يخالط المعيوه الصحيح ؛ لئلا يناله من نطفه وحكته نحو مما به .
قال : وأما الجنس الآخر من العدوى ، فهو ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ( الطاعون ، ينزل ببلد ، فيخرج منه خوف العدوى ) . يريد بقوله : لا تخرجوا من البلد إذا كان فيه كأنكم تظنون أن الفرار من قدر الله ينجيكم من الله ، ويريد إذا كان ببلد فلا تدخلوه ، أي مقامكم في الموضع الذي لا طاعون فيه أسكن لقلوبكم ، وأطيب لعيشكم ، ومن ذلك المرأة تعرف بالشؤم أو الدار ، فينال الرجل مكروه ، أو جائحة فيقول : أعدتني بشؤمها ، فهذا هو العدوى الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا وقع ببلد وأنتم به فلا تخرجوا منه وإذا كان ببلد فلا تدخلوه لا عدوى )
وقالت فرقة أخرى : بل منه على الاستحباب ، والاختيار ، والإرشاد ، وأما الأكل معه ، ففعله لبيان الجواز ، وأن هذا ليس بحرام . الأمر باجتناب المجذوم والفرار
وقالت فرقة أخرى : بل الخطاب بهذين الخطابين جزئي لا كلي ، فكل [ ص: 140 ] واحد خاطبه النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يليق بحاله ، فبعض الناس يكون قوي الإيمان ، قوي التوكل ، تدفع قوة توكله قوة العدوى ، كما تدفع قوة الطبيعة قوة العلة ، فتبطلها ، وبعض الناس لا يقوى على ذلك ، فخاطبه بالاحتياط والأخذ بالتحفظ ، وكذلك هو - صلى الله عليه وسلم - فعل الحالتين معا ؛ لتقتدي به الأمة فيهما ، فيأخذ من قوي من أمته بطريقة التوكل ، والقوة ، والثقة بالله ، ويأخذ من ضعف منهم بطريقة التحفظ ، والاحتياط ، وهما طريقان صحيحان .
أحدهما : للمؤمن القوي والآخر للمؤمن الضعيف ، فتكون لكل واحد من الطائفتين حجة ، وقدوة بحسب حالهم ، وما يناسبهم ، وهذا كما أنه - صلى الله عليه وسلم - كوى ، وأثنى على تارك الكي ، وقرن تركه بالتوكل ، وترك الطيرة ، ولهذا نظائر كثيرة ، وهذه طريقة لطيفة حسنة جدا ، من أعطاها حقها ، ورزق فقه نفسه فيها ، أزالت عنه تعارضا كثيرا ، يظنه بالسنة الصحيحة .
وذهبت فرقة أخرى : إلى أن الأمر بالفرار منه ومجانبته لأمر طبيعي ، وهو انتقال الداء منه بواسطة الملامسة ، والمخالطة ، والرائحة إلى الصحيح ، وهذا يكون مع تكرير المخالطة ، والملامسة له ، وأما أكله معه مقدارا يسيرا من الزمان لمصلحة راجحة فلا بأس به ، ولا تحصل العدوى من مرة واحدة ، ولحظة واحدة ، فنهى سدا للذريعة ، وحماية للصحة ، وخالطه مخالطة ما للحاجة والمصلحة ، فلا تعارض بين الأمرين .
وقالت طائفة أخرى : يجوز أن يكون هذا المجذوم الذي أكل معه به من الجذام أمر يسير ، لا يعدي مثله ، وليس الجذمى كلهم سواء ، ولا العدوى حاصلة من جميعهم ، بل منهم من لا تضر مخالطته ، ولا تعدي ، وهو من أصابه من ذلك شيء يسير ، ثم وقف واستمر على حاله ، ولم يعد بقية جسمه ، فهو أن لا يعدي غيره أولى وأحرى .
وقالت فرقة أخرى : إن الجاهلية كانت ، فأبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتقادهم ذلك ، وأكل مع المجذوم ؛ ليبين لهم أن الله سبحانه هو الذي يمرض ويشفي ونهى عن القرب منه [ ص: 141 ] ليتبين لهم أن هذا من الأسباب التي جعلها الله مفضية إلى مسبباتها ، ففي نهيه إثبات الأسباب ، وفي فعله بيان أنها لا تستقل بشيء ، بل الرب سبحانه إن شاء سلبها قواها ، فلا تؤثر شيئا ، وإن شاء أبقى عليها قواها فأثرت . تعتقد أن الأمراض المعدية تعدي بطبعها من غير إضافة إلى الله سبحانه
وقالت فرقة أخرى : بل هذه الأحاديث فيها الناسخ والمنسوخ ، فينظر في تاريخها فإن علم المتأخر منها ، حكم بأنه الناسخ وإلا توقفنا فيها .
وقالت فرقة أخرى : بل بعضها محفوظ ، وبعضها غير محفوظ وتكلمت في حديث " لا عدوى " ، وقالت : قد كان يرويه أولا ، ثم شك فيه فتركه ، وراجعوه فيه ، وقالوا : سمعناك تحدث به ، فأبى أن يحدث به . أبو هريرة
قال أبو سلمة : فلا أدري أنسي أم نسخ أحد الحديثين الآخر ؟ أبو هريرة
وأما حديث جابر : ( ) فحديث لا يثبت ولا يصح ، وغاية ما قال فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيد مجذوم فأدخلها معه في القصعة : إنه غريب لم يصححه ولم يحسنه . وقد قال الترمذي شعبة وغيره : اتقوا هذه الغرائب .
قال : ويروى هذا من فعل الترمذي عمر ، وهو أثبت ، فهذا شأن هذين الحديثين اللذين عورض بهما أحاديث النهي ، أحدهما : رجع عن التحديث به وأنكره ، والثاني : لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والله أعلم ، وقد أشبعنا الكلام في هذه المسألة في كتاب " المفتاح " بأطول من هذا ، وبالله التوفيق . أبو هريرة