فصل
فأما المطعم والمشرب ، ، فإن ذلك يضر بالطبيعة جدا ، وقد يتعذر عليها أحيانا ، فإن لم يتناول غيره ، ضعف أو هلك ، وإن تناول غيره ، لم تقبله الطبيعة ، واستضر به ، فقصرها على نوع واحد دائما - ولو أنه أفضل الأغذية - خطر مضر . فلم يكن من عادته - صلى الله عليه وسلم - حبس النفس على نوع واحد من الأغذية لا يتعداه إلى ما سواه
[ ص: 199 ] بل كان يأكل ما جرت عادة أهل بلده بأكله من اللحم والفاكهة والخبز والتمر ، وغيره مما ذكرناه في هديه في المأكول ، فعليك بمراجعته هناك .
وإذا كان في أحد الطعامين كيفية تحتاج إلى كسر وتعديل ، كسرها وعدلها بضدها إن أمكن ، كتعديل حرارة الرطب بالبطيخ ، وإن لم يجد ذلك ، تناوله على حاجة وداعية من النفس من غير إسراف ، فلا تتضرر به الطبيعة .
، ولم يحملها إياه على كره ، وهذا أصل عظيم في حفظ الصحة ، فمتى أكل الإنسان ما تعافه نفسه ، ولا يشتهيه ، كان تضرره به أكثر من انتفاعه . قال وكان إذا عافت نفسه الطعام لم يأكله : ( أبو هريرة ) ، ( ما عاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعاما قط ، إن اشتهاه أكله ، وإلا تركه ولم يأكل منه ) ، فراعى عادته وشهوته ، فلما لم يكن يعتاد أكله بأرضه ، وكانت نفسه لا تشتهيه ، أمسك عنه ، ولم يمنع من أكله من يشتهيه ، ومن عادته أكله . ولما قدم إليه الضب المشوي لم يأكل منه ، فقيل له : أهو حرام ؟ قال : لا ، ولكن لم يكن بأرض قومي ، فأجدني أعافه
وكان يحب اللحم ، وأحبه إليه الذراع ، ومقدم الشاة ، ولذلك سم فيه ، وفي " الصحيحين " : ( ) . أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلحم فرفع إليه الذراع ، وكانت تعجبه
وذكر أبو عبيدة وغيره عن ، أنها ذبحت في بيتها شاة [ ص: 200 ] فأرسل إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أطعمينا من شاتكم ، فقالت للرسول : ما بقي عندنا إلا الرقبة ، وإني لأستحيي أن أرسل بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، فرجع الرسول فأخبره ، فقال : ( ضباعة بنت الزبير ) . ارجع إليها فقل لها : أرسلي بها ، فإنها هادية الشاة ، وأقرب إلى الخير ، وأبعدها من الأذى
ولا ريب أن أخف لحم الشاة لحم الرقبة ولحم الذراع ، والعضد وهو أخف على المعدة ، وأسرع انهضاما ، وفي هذا مراعاة الأغذية التي تجمع ثلاثة أوصاف . أحدها : كثرة نفعها وتأثيرها في القوى . الثاني : خفتها على المعدة ، وعدم ثقلها عليها . الثالث : سرعة هضمها ، وهذا أفضل ما يكون من الغذاء ، والتغذي باليسير من هذا أنفع من الكثير من غيره .
، وهذه الثلاثة - أعني : اللحم والعسل والحلواء - من أفضل الأغذية ، وأنفعها للبدن ، والكبد والأعضاء ، وللاغتذاء بها نفع عظيم في حفظ الصحة والقوة ، ولا ينفر منها إلا من به علة وآفة . وكان يحب الحلواء والعسل
ما وجد له إداما ، فتارة يأدمه باللحم ويقول : ( وكان يأكل الخبز مأدوما ) . رواه هو سيد طعام أهل الدنيا والآخرة وغيره . وتارة بالبطيخ ، وتارة بالتمر ، فإنه وضع تمرة على كسرة شعير وقال : ( ابن ماجه ) ، وفي هذا من تدبير الغذاء أن خبز الشعير بارد يابس ، والتمر حار رطب على أصح القولين ، فأدم [ ص: 201 ] خبز الشعير به من أحسن التدبير ، لا سيما لمن تلك عادتهم ، هذا إدام هذه كأهل المدينة ، وتارة بالخل ، ويقول : ( نعم الإدام الخل ) ، وهذا ثناء عليه بحسب مقتضى الحال الحاضر ، لا تفضيل له على غيره ، كما يظن الجهال ، وسبب الحديث أنه دخل على أهله يوما ، فقدموا له خبزا ، فقال : ( " " ) . هل عندكم من إدام ؟ " قالوا : ما عندنا إلا خل ، فقال : " نعم الإدام الخل
والمقصود : أن بخلاف الاقتصار على أحدهما وحده . وسمي الأدم أدما ؛ لإصلاحه الخبز ، وجعله ملائما لحفظ الصحة . ومنه قوله في إباحته للخاطب النظر : ( أكل الخبز مأدوما من أسباب حفظ الصحة ) ، أي أقرب إلى الالتئام والموافقة ، فإن الزوج يدخل على بصيرة ، فلا يندم . إنه أحرى أن يؤدم بينهما
وكان يأكل من فاكهة بلده عند مجيئها ، ولا يحتمي عنها ، وهذا أيضا من أكبر أسباب حفظ الصحة ، فإن الله سبحانه بحكمته جعل في كل بلدة من الفاكهة ما ينتفع به أهلها في وقته ، فيكون تناوله من أسباب صحتهم وعافيتهم ، ويغني عن كثير من الأدوية ، وقل من احتمى عن فاكهة بلده خشية السقم إلا وهو من أسقم الناس جسما ، وأبعدهم من الصحة والقوة .
وما في تلك الفاكهة من الرطوبات ، فحرارة الفصل والأرض ، وحرارة المعدة تنضجها وتدفع شرها إذا لم يسرف في تناولها ، ولم يحمل منها الطبيعة فوق ما تحتمله ، ولم يفسد بها الغذاء قبل هضمه ، ولا أفسدها بشرب الماء عليها ، وتناول الغذاء بعد التحلي منها ، فإن القولنج كثيرا ما يحدث عند ذلك ، فمن أكل منها ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي ، كانت له دواء نافعا .