فصل 
أما العبادات : فأعظمها الصلاة    . والناس إما أن يبتدئوا مسائلها بالطهور ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : مفتاح الصلاة الطهور كما رتبه أكثرهم ، وإما بالمواقيت التي تجب بها الصلاة ، كما فعله  مالك  وغيره . 
فأما الطهارة والنجاسة فنوعان من الحلال والحرام - في   [ ص: 22 ] اللباس ونحوه - تابعان للحلال والحرام في الأطعمة والأشربة . 
ومذهب أهل الحديث في هذا الأصل العظيم الجامع وسط بين مذهب العراقيين والحجازيين ، فإن أهل المدينة    -  مالكا  وغيره - يحرمون من الأشربة كل مسكر ، كما صحت بذلك النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة ، وليسوا في الأطعمة كذلك ، بل الغالب عليهم فيها عدم التحريم ، فيبيحون [ الطيور ] مطلقا وإن كانت من ذات المخالب ، [ ويكرهون ] كل ذي ناب من السباع ، وفي تحريمها عن  مالك  روايتان ، وكذلك في الحشرات عنه -هل هي محرمة، أو مكروهة - روايتان ، وكذلك البغال والحمير  ، وروي عنه أنها مكروهة أشد من كراهة السباع ، وروي عنه : أنها محرمة بالسنة دون تحريم الحمير ، والخيل أيضا يكرهها ، لكن دون كراهة السباع . 
وأهل الكوفة  في باب الأشربة مخالفون لأهل المدينة  ولسائر الناس ، ليست الخمر عندهم إلا من العنب ، ولا يحرمون القليل من المسكر  إلا أن يكون خمرا من العنب ، أو أن يكون من نبيذ التمر أو الزبيب النيء ، أو يكون من مطبوخ عصير العنب إذا لم يذهب ثلثاه ، وهم في الأطعمة في غاية التحريم حتى حرموا الخيل والضباب  ، وقيل : إن  أبا حنيفة  يكره الضب والضباع  ونحوها . 
فأخذ أهل الحديث في الأشربة بقول أهل المدينة  وسائر   [ ص: 23 ] 
[ أهل ] الأمصار ؛ موافقة للسنة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في التحريم ، وزادوا عليهم في متابعة السنة . وصنف  الإمام أحمد  كتابا كبيرا في الأشربة ، ما علمت [ أحدا ] صنف أكبر منه ، وكتابا أصغر منه . وهو أول من أظهر في العراق  هذه السنة ، حتى إنه دخل بعضهم بغداد  فقال : هل فيها من يحرم النبيذ ؟ فقالوا : لا ، إلا  أحمد بن حنبل  دون غيره من الأئمة ، وأخذ فيها بعامة السنة ، حتى إنه حرم العصير والنبيذ بعد ثلاث ، وإن لم يظهر فيه شدة ؛ متابعة للسنة المأثورة في ذلك ؛ لأن الثلاث مظنة ظهور الشدة غالبا ، والحكمة هنا مما تخفى ، فأقيمت المظنة مقام الحكمة ، حتى إنه كره الخليطين ، إما كراهة تنزيه أو تحريم على اختلاف الروايتين عنه ، وحتى اختلف قوله في الانتباذ في الأوعية    : هل هو مباح أو محرم أو مكروه ؟ لأن أحاديث النهي كثيرة جدا وأحاديث النسخ قليلة . فاختلف اجتهاده : هل تنسخ تلك الأخبار المستفيضة بمثل هذه الأخبار التي لا تخرج عن كونها أخبار آحاد ، ولم يخرج  البخاري  منها شيئا ؟ 
وأخذوا في الأطعمة بقول أهل الكوفة  لصحة السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم كل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير  ، وتحريم   [ ص: 24 ] لحوم الحمر  ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على من تمسك في هذا الباب بعدم وجود نص التحريم في القرآن ، حيث قال : لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : بيننا وبينكم هذا القرآن فما وجدنا فيه من حلال استحللناه ، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ، ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه ، وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله تعالى   . 
وهذا المعنى محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه . 
 [ ص: 25 ] وعلموا أن ما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم [ إنما هو ] زيادة تحريم ليس نسخا للقرآن ؛ لأن القرآن إنما دل على أن الله لم يحرم إلا الميتة والدم ولحم الخنزير ، وعدم التحريم ليس تحليلا ، وإنما هو بقاء للأمر على ما كان ، وهذا قد ذكره الله في سورة الأنعام التي هي مكية باتفاق العلماء ، ليس كما ظنه أصحاب  مالك   والشافعي  أنها من آخر القرآن نزولا ، وإنما سورة المائدة هي المتأخرة ، وقد قال الله فيها : ( أحل لكم الطيبات    ) فعلم أن عدم التحريم المذكور في سورة الأنعام ليس تحليلا ، وإنما هو عفو ، فتحريم رسول الله رافع للعفو ليس نسخا للقرآن . 
لكن لم يوافق أهل الحديث الكوفيين على جميع ما حرموه ، بل أحلوا الخيل لصحة السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحليلها يوم خيبر ، وبأنهم ذبحوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا وأكلوا لحمه ، وأحلوا الضب لصحة السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه قال : لا أحرمه وبأنه أكل على مائدته وهو ينظر ولم ينكر على من أكله ، وغير ذلك مما جاءت فيه الرخصة . 
 [ ص: 26 ] فنقصوا عما حرمه أهل الكوفة  من الأطعمة ، كما زادوا على أهل المدينة  في الأشربة ؛ لأن النصوص الدالة على تحريم الأشربة المسكرة أكثر من النصوص الدالة على تحريم الأطعمة . 
ولأهل المدينة  سلف من الصحابة والتابعين في استحلال ما أحلوه أكثر من سلف أهل الكوفة  في استحلال المسكر ، والمفاسد الناشئة من المسكر أعظم من مفاسد خبائث الأطعمة ، ولهذا سميت الخمر " أم الخبائث " كما سماها  عثمان بن عفان     - رضي الله عنه - وغيره ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجلد شاربها ، وفعله هو وخلفاؤه ، وأجمع عليه العلماء ، دون المحرمات من الأطعمة فإنه لم [ يحد ] فيها أحد من أهل العلم إلا ما بلغنا عن  الحسن البصري  ، بل قد أمر صلى الله عليه وسلم بقتل شارب الخمر في الثالثة أو الرابعة  ، وإن كان الجمهور على أنه منسوخ . ونهى النبي صلى الله عليه وسلم - فيما صح عنه - عن تخليل الخمر  وأمر بشق ظروفها وكسر دنانها ، وإن كان قد اختلفت الرواية عن أحمد : هل هذا باق أو منسوخ ؟ 
				
						
						
