بيان بطريق الرياضة : قبول الأخلاق للتغيير
اعلم أن بعض من غلبت عليه البطالة استثقل المجاهدة والرياضة ، والاشتغال بتزكية النفس وتهذيب الأخلاق ، فلم تسمح نفسه بأن يكون ذلك لقصوره ونقصه ، وخبث دخلته ، فزعم أن الأخلاق لا يتصور تغييرها ، فإن الطباع لا تتغير ، فنقول : لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات ، ولما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " حسنوا أخلاقكم " .
وكيف ينكر هذا في حق الآدمي ، وتغيير خلق البهيمة ممكن ، إذ ينقل البازي من الاستيحاش إلى الأنس ، والفرس من الجماح إلى السلاسة والانقياد ، وكل ذلك تغيير للأخلاق ، والقول الكاشف للغطاء عن ذلك أن نقول : الموجودات منقسمة :
إلى ما لا مدخل للآدمي واختياره في أصله وتفصيله ، كالسماء والكواكب ، بل أعضاء البدن داخلا وخارجا وسائر أجزاء الحيوانات ، وبالجملة كل ما هو حاصل كامل وقع الفراغ من وجوده وكماله .
وإلى ما وجد وجودا ناقصا وجعل فيه قوة لقبول الكمال بعد أن وجد شرطه ، وشرطه قد يرتبط باختيار العبد ، فإن النواة ليس بتفاح ولا نخل ، إلا أنها خلقت خلقة يمكن أن تصير نخلة إذا انضاف التربية إليها ، ولا تصير تفاحا أصلا ولا بالتربية ، فإذا صارت النواة متأثرة بالاختيار حتى تقبل بعض الأحوال دون بعض ، فكذلك الغضب والشهوة لو أردنا قمعهما وقهرهما بالكلية حتى لا يبقى لهما أثر لم نقدر عليه أصلا ، ولو أردنا سلاستهما وقودهما بالرياضة والمجاهدة [ ص: 178 ] قدرنا عليه ، وقد أمرنا بذلك وصار ذلك سبب نجاتنا ووصولنا إلى الله تعالى .
نعم الجبلات مختلفة ، بعضها سريعة القبول وبعضها بطيئة القبول ، وليس المقصود من المجاهدة قمع هذه الصفات بالكلية ومحوها ، وهيهات فإن الشهوة خلقت لفائدة ، وهي ضرورية في الجبلة ، فلو انقطعت شهوة الطعام لهلك الإنسان ، ولو انقطعت شهوة الوقاع لانقطع النسل ، ولو انقطع الغضب بالكلية لم يدفع الإنسان عن نفسه ما يهلكه ولهلك . ومهما بقي أصل الشهوة ، فيبقى لا محالة حب المال الذي يوصله إلى الشهوة حتى يحمله ذلك على إمساك المال ، وليس المطلوب إماطة ذلك بالكلية ، بل المطلوب ردها إلى الاعتدال الذي هو وسط بين الإفراط والتفريط .
والمطلوب في صفة الغضب حسن الحمية ، وذلك بأن يخلو عن التهور وعن الجبن جميعا . وبالجملة أن يكون في نفسه قويا ، ومع قوته منقادا للعقل ؛ ولذلك قال الله تعالى : ( أشداء على الكفار رحماء بينهم ) [ الفتح : 29 ] وصفهم بالشدة ، وإنما تصدر الشدة عن الغضب ، ولو بطل الغضب لبطل الجهاد ، وكيف يقصد قلع الشهوة والغضب بالكلية ، والأنبياء عليهم السلام لم ينفكوا عن ذلك ، إذ قال - صلى الله عليه وسلم - : " إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر " ، وكان إذا تكلم بين يديه بما يكرهه يغضب حتى تحمر وجنتاه ، ولكن لا يقول إلا حقا ، فكان عليه الصلاة والسلام لا يخرجه غضبه عن الحق ، وقال تعالى : ( والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس ) [ آل عمران : 134 ] ولم يقل والفاقدين الغيظ ، فرد الغضب والشهوة إلى حد الاعتدال بحيث لا يقهر واحد منهما العقل ولا يغلبه ، بل يكون العقل هو الضابط لهما والغالب عليهما ، ممكن ، وهو المراد بتغيير الخلق ، فإنه ربما تستولي الشهوة على الإنسان بحيث لا يقوى عقله على دفعها عن الانبساط إلى الفواحش ، وبالرياضة تعود إلى حد الاعتدال ، فدل أن ذلك ممكن ، والتجربة والمشاهدة تدل على ذلك دلالة لا شك فيها . والذي يدل على أن المطلوب هو الوسط في الأخلاق دون الطرفين أن ، وهو وسط بين طرفي التبذير والتقتير ، وقد أثنى الله تعالى عليه فقال : ( السخاء خلق محمود شرعا والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ) [ الفرقان : 67 ] وقال تعالى : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ) [ الإسراء : 29 ] وكذلك المطلوب في شهوة الطعام الاعتدال دون الشره والجمود ، قال الله تعالى : ( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) [ الأعراف : 31 ] وقال في الغضب : ( أشداء على الكفار رحماء بينهم ) [ الفتح : 29 ] . وقال - صلى الله عليه وسلم - : " " . خير الأمور أوساطها