بيان : الإيثار وفضله
اعلم أن السخاء والبخل كل منهما ينقسم إلى درجات ، فأرفع درجات السخاء الإيثار ، وهو أن يجود مع الحاجة إليه ، وإنما السخاء عبارة عن بذل ما لا يحتاج إليه لمحتاج أو لغير محتاج ، والبذل مع الحاجة أشد ، وكما أن السخاوة قد تنتهي إلى أن يسخو الإنسان على غيره مع الحاجة .
فالبخل قد ينتهي إلى أن يبخل على نفسه مع الحاجة ، فكم من بخيل يمسك المال ويمرض فلا يتداوى ، ويشتهي الشهوة فلا يمنعه منها إلا البخل بالثمن ، ولو وجدها مجانا لأكلها ، فهذا بخيل على نفسه مع الحاجة ، وذلك يؤثر على نفسه غيره مع أنه محتاج إليه ، فانظر ما بين الرجلين ، فإن الأخلاق عطايا يضعها الله حيث يشاء ، وليس بعد الإيثار درجة في السخاء ، وقد أثنى الله على الصحابة رضي الله عنهم به فقال : ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) [ الحشر : 9 ] .
الأنصار فذهب بالضيف إلى أهله ثم وضع بين يديه الطعام وأمر امرأته بإطفاء السراج ، وجعل يمد يده إلى الطعام كأنه يأكل ، ولا يأكل حتى أكل الضيف الطعام ، فلما أصبح قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد عجب الله من صنيعكم الليلة إلى ضيفكم " ونزلت : ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) [ الحشر : 9 ] . فقد روي أنه نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ضيف فلم يجد عند أهله شيئا ، فدخل عليه رجل من
فالسخاء خلق من أخلاق الله تعالى ، والإيثار أعلى درجات السخاء ، وكان ذلك من دأب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سماه الله تعالى عظيما فقال تعالى : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) [ القلم : 4 ] .
قيل : خرج " عبد الله بن جعفر " رضي الله عنهما إلى ضيعة له فنزل على نخيل قوم وفيه [ ص: 226 ] غلام أسود يعمل فيه إذ أتى الغلام بقوته فدخل الحائط كلب ودنا من الغلام فرمى إليه الغلام بقرص فأكله ، ثم رمى إليه الثاني والثالث فأكله وعبد الله ينظر إليه ، فقال : " يا غلام كم قوتك كل يوم " ؟ قال : " ما رأيت " ، قال : " فلم آثرت به هذا الكلب " ؟ قال : " ما هي بأرض كلاب إنه جاء من مسافة بعيدة جائعا ، فكرهت أن أشبع ، وهو جائع " ، قال " فما أنت صانع اليوم " ؟ قال : " أطوي يومي هذا " ، فقال " عبد الله بن جعفر " : " ألام على السخاء إن هذا الغلام لأسخى مني " فاشترى الحائط والغلام وما فيه من الآلات فأعتق الغلام ووهبه منه .
وقال " عمر " رضي الله عنه : " أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال : " إن أخي كان أحوج مني إليه ، فبعث به إليه فلم يزل كل واحد يبعث به إلى آخر حتى تداوله سبعة أبيات ورجع إلى الأول " .
وقال " حذيفة العدوي " : " انطلقت يوم اليرموك من أيام فتوح الشام أطلب ابن عم لي ومعي شيء من ماء وأنا أقول : " إن كان به رمق سقيته ومسحت به وجهه ، فإذا أنا به ، فقلت : " أسقيك " ؟ فأشار إلي : أن نعم ، فإذا رجل يقول : " آه " ، فأشار ابن عمي إلي: انطلق به إليه ، قال : " فجئته ، فإذا هو " فقلت : " أسقيك " ؟ فسمع به آخر فقال : " آه " فأشار هشام بن العاص هشام :انطلق به إليه فجئته ، فإذا هو قد مات ، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات ، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات رحمة الله عليهم أجمعين " .