بيان مجاري الفكر
اعلم أن أنواع مجاري الفكر أربعة : الطاعات والمعاصي والصفات المهلكات والصفات المنجيات .
فأما المعاصي : فينبغي أن فيتركها ، أو لابسها بالأمس فيتداركها بالترك والندم ، أو هو متعرض لها في نهاره فيستعد للاحتراز والتباعد عنها ، فينظر في اللسان ويقول : إنه متعرض للغيبة والكذب وتزكية النفس والاستهزاء بالغير والمماراة والممازحة والخوض فيما لا يعني إلى غير ذلك من المكاره ، فيقرر أولا في نفسه أنها مكروهة عند الله تعالى ، ويتفكر في شواهد القرآن والسنة على شدة العذاب فيها فيتحرز منها . ويتفكر في سمعه أن يصغي به إلى الغيبة والكذب وفضول الكلام وإلى اللهو ، وأنه ينبغي أن يحترز عنه . ويتفكر في بطنه أنه إنما يعصي الله تعالى فيه بالأكل والشرب : إما بكثرة الأكل من الحلال وذلك مكروه عند الله ، وإما بأكل الحرام والشبهة ، فيتفكر في الاحتراز عن مداخله ، ويتفكر في طريق الحلال وموارده ، ويقرر على [ ص: 311 ] نفسه أن العبادات كلها ضائعة مع أكل الحرام ، وأن كل الحلال هو أساس العبادات كلها . يفتش الإنسان صبيحة كل يوم جميع أعضائه السبعة ، ثم بدنه هل هو في الحال ملابس لمعصية بها
فهكذا يتفكر في أعضائه حتى يحفظها .
وأما الطاعات : فينظر أولا في الفرائض المكتوبة عليه أنه كيف يؤديها وكيف يحرسها عن النقصان والتقصير ، أو كيف يجبر نقصانها بالنوافل .
ثم يرجع إلى عضو عضو فيتفكر في الأفعال التي تتعلق به مما يحبه الله تعالى فيقول : إن عبرة ، ولتستعمل في طاعة الله تعالى ، وتنظر في كتاب الله وسنة رسوله ، وأنا قادر على أن أشغل العين بمطالعة القرآن والسنة فلم لا أفعله ؟ وأنا قادر على أن أنظر إلى فلان المطيع بعين التعظيم فأدخل السرور على قلبه فلم لا أفعله ؟ وكذلك يقول في سمعه : إني قادر على استماع كلام ملهوف أو استماع حكمة وعلم فما لي أعطله ؟ وقد أنعم الله علي به وأودعنيه لأشكره فما لي أكفر نعمة الله فيه بتضييعه وتعطيله ؟ وكذلك يتفكر في اللسان ويقول : إني قادر على أن أتقرب إلى الله تعالى بالتعليم والوعظ والتودد إلى قلوب أهل الصلاح ، وبالسؤال عن أحوال الفقراء وإدخال السرور على قلب زيد الصالح وعمرو العالم بكلمة طيبة ، وكل كلمة طيبة فإنها صدقة . وكذلك يتفكر في ماله فيقول : أنا قادر على أن أتصدق بالمال الفلاني فإني مستغن عنه ، ومهما احتجت إليه رزقني الله تعالى مثله ، وإن كنت محتاجا الآن فأنا إلى ثواب الإيثار أحوج مني إلى ذلك المال . وهكذا يفتش عن جميع أعضائه وجملة بدنه وأمواله ، بل عن دوابه وأولاده ، فإن كل ذلك أدواته وأسبابه ، ويقدر على أن يطيع الله تعالى بها فيستنبط بدقيق الفكر وجوه الطاعات الممكنة بها ، ويتفكر فيما يرغبه في البدار إلى تلك الطاعات ، ويتفكر في إخلاص النية فيها ، وقس على هذا سائر الطاعات . العين خلقت للنظر في ملكوت السماوات والأرض
وأما الصفات المهلكة التي محلها القلب : فيعرفها مما تقدم ، وهي استيلاء الشهوة والغضب والبخل والكبر والعجب والرياء والحسد وسوء الظن والغفلة والغرور وغير ذلك ، ويتفقد من قلبه هذه الصفات ، ويتفكر في طريق العلاج لها مما سلف ذكره .
وأما المنجيات : فهي التوبة والندم على الذنوب ، والصبر على البلاء ، والشكر على النعماء ، والخوف والرجاء ، والزهد في الدنيا ، والإخلاص والصدق في الطاعات ، ومحبة الله وتعظيمه ، والرضا بأفعاله ، والشوق إليه ، والخشوع والتواضع له مما تقدم ذكره . فيتفكر كل يوم في قلبه : ما الذي يعوزه من هذه الصفات التي هي المقربة إلى الله تعالى ، فإذا افتقر إلى شيء منها فليعلم أنها أحوال لا يثمرها إلا علوم ، وأن العلوم لا يثمرها إلا أفكار ؛ فإذا أراد أن يكتسب لنفسه أحوال التوبة والندم فليفتش ذنوبه أولا ، وليتفكر فيها وليجمعها على نفسه وليعظمها في قلبه ، ثم لينظر في الوعيد والتشديد الذي ورد في الشرع فيها ، وليحقق عند نفسه أنه متعرض لمقت الله تعالى حتى ينبعث له حال الندم . وإذا أراد أن يستثير من قلبه حال الشكر فلينظر في إحسان الله وأياديه عليه ، وفي إرساله جميل ستره عليه ، وإذا أراد حال المحبة والشوق فليتفكر [ ص: 312 ] في جلال الله وجماله وعظمته وكبريائه ، وذلك بالنظر في عجائب حكمته وبدائع صنعه ، وإذا أراد حال الخوف فلينظر أولا في ذنوبه الظاهرة والباطنة ، ثم لينظر في الموت وسكراته ، ثم فيما بعده من سؤال القبر وحياته وعقاربه وديدانه ، ثم في هول النداء عند نفخة الصور [ الزمر : 68 ] ثم في هول المحشر عند جميع الخلائق على صعيد واحد ، ثم في المناقشة في الحساب والمضايقة في النقير والقطمير ، ثم ليحضر في قلبه صورة جهنم وأهوالها وسلاسلها وأغلالها [ يس : 8 والإنسان : 4 ] وزقومها [ الواقعة : 52 ] وصديدها وأنواع العذاب فيها ، وأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها [ النساء : 56 ] وأنهم إذا رأوها من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا [ الفرقان : 12 ] ، وهلم جرا إلى جميع ما ورد في القرآن من شرحها . وإذا أراد أن يستجلب حال الرجاء فلينظر إلى الجنة ونعيمها وأشجارها وحورها وولدانها [ الواقعة : 17 ] ونعيمها المقيم وملكها الدائم . فهكذا طريق الفكر الذي يطلب به العلوم التي تثمر اجتلاب أحوال محبوبة أو التنزه عن صفات مذمومة .
وأما ذكر مجامع تلك الأحوال فلا يوجد فيه أنفع من ، فإن القرآن جامع لجميع المقامات والأحوال ، وفيه شفاء للعالمين ، فيه ما يورث الخوف والرجاء والصبر والشكر والمحبة والشوق وسائر الأحوال ، وفيه ما يزجر عن سائر الصفات المذمومة ، فينبغي أن يقرأه العبد ويردد الآية التي هو محتاج إلى التفكر فيها مرة بعد أخرى ولو مائة مرة ، فقراءة آية بتفكر وفهم خير من ختمة بغير تدبر وفهم ، فليتوقف في التأمل فيها ولو ليلة واحدة ، فإن تحت كل كلمة منها أسرارا لا تنحصر ولا يوقف عليها إلا بدقيق الفكر عن صفاء القلب بعد صدق المعاملة . قراءة القرآن بالتفكر
وكذلك مطالعة أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قد أوتي جوامع الكلم ، وكل كلمة من كلماته بحر من بحور الحكمة ، ولو تأملها العالم حق التأمل لم ينقطع فيها نظره طول عمره .