21 - المباحث الزكية في المسألة الدوركية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ، وبعد ، فقد ورد علي سؤال من بلاد دوركي صورته : قال الواقف في كتاب وقفه : ، ما تقول السادة العلماء في معنى قوله : فإن لم يبق من أولاد الذكور يكون وقفا على أولاده الإناث ؟ وفي معنى الضميرين المجرورين فيه أنهما لماذا يرجعان وبماذا يصح معنى كتاب الوقف ، وما تقول فيمن قال بتحريم إناث الذكور وانتقال الوقف من نسل الواقف والخروج منهم بانقطاع الأولاد الصلبية بعد ما تصرفوا فيه بإذن الحاكمين الحنفي ، والشافعي ، مدة سبع وعشرين سنة زعما منه أن معنى كتاب الوقف هكذا المفهوم من العبارة الواقعة في كتاب الوقف وهي - أي الطاحونة - وقف على أولاده الذكور أي على [ ص: 193 ] أولاد الواقف الذكور لما أن الضمير في أولاده راجع إلى الواقف وعلى أولادهم الذكور ، الضمير راجع إلى أولاد الذكور دون الإناث ، نفي عن إناث الذكور ، فإن لم يبق من أولاده الذكور يكون وقفا على أولاده الإناث ، فما بعد يكون وقفا على المسجد الجامع المعمور وقف على أولاده الذكور وأولاد أولادهم الذكور دون الإناث فإن لم يبق من أولاده الذكور أحد يكون وقفا على أولاده الإناث بدوركي ، فعلم من ذلك أن الواقف اختص أولا إلى ذكور الواقف ، وخرج من البين إناث الذكور خائبات بحكم عبارة : دون الإناث ، ولم يستحق الوقف إلا من هو من الإناث الصلبية للواقف ، ولو بقي أحد من تلك الإناث الصلبية يستحق إلى حين الانقراض وإلا لا يستحق له أحد غيرها ، فمن عانده يأتي بحجة شرعية لا بحجة عقلية ، هذه صورة السؤال .
فكتبت عليه ما نصه : قول الواقف : على أولاده الذكور وأولاد أولادهم الذكور دون الإناث ، ينفي أولاد بنات الذكور لا بنات الذكور ، والحاصل أن الواقف قصر الوقف على من ينسب إليه ، فأولاد بنيه يعطون ذكورا كانوا أو إناثا إذا وجد شرط الإناث وهو فقد الذكور ، وأولاد بنات بنيه لا يعطون البتة ؛ لأنهم لا ينسبون إليه ، فبنت الابن تنسب إلى جدها كابن الابن ، وبنت البنت أو ابن البنت إنما ينسبان إلى أبيهما لا إلى جدهما أبي أمهما ، فضمير أولادهم للأولاد ، والذكور صفة لأولاد المضاف إلى الضمير لا لأولاد الأول المضاف إلى أولادهم ؛ إذ لو كان صفة له لزم محذور أشد وهو الصرف إلى الأولاد الذكور من نسل جميع أولاد الأولاد الشامل للذكور والإناث ، فيلزم الصرف إلى ابن بنت الابن ، وهو خلاف المراد المفهوم من سياق غرض الواقف حيث منع بنات نفسه مع وجود الذكور ، فلا يمكن إعطاء من أدلى ببنت ابن مع وجودهم ووجود بنات نفسه ، فعلم أن مقصوده إعطاء من ينسب إليه من بنيه وبناته وأولاد بنيه ذكورا وإناثا ، وأولاد بني بنيه دون أولاد بنات بنيه ، وعلم شرط فقد الذكور في إعطاء الإناث من صلبه بالنص منه ومن بنات أولاده إما بالقياس عليهن وإما بعموم نصه ، فإن قوله : "أولاده" ، في الموضعين - وهما : فإن لم يبق من أولاده الذكور يكون وقفا على أولاده الإناث - قد يقال لشموله لهم لفظا ؛ لكون الجملة جاءت عقب النوعين ، وإن كان الراجح عندنا أن أولاد الأولاد لا يدخلون في الوقف على الأولاد ، فهذا مدرك خاص بهذه الواقعة ، هذه صورة الجواب .
وقد أورد عليه أنه على هذا التقرير يلزم خلو نص الواقف عن استحقاق أولاد أولاده ، فإنه لم يذكر أولا أولاده وأولاد أولادهم ، ولم يذكر أولادهم ، وأقول : هذا الأمر [ ص: 194 ] مما زادنا يقينا فيما أفتينا به من استحقاق بنات أولاده بشرط فقد الذكور ، ومن أن الذكور صفة لأولادهم لا لأولاد المضاف هو إليه ، ومن أن قوله : " أولاده " في الموضعين شامل بعموم لفظه للحقيقة والمجاز ، أعني أولاد صلبه وأولاد أولاده ، فإن قلت : بين لي ذلك حتى أفهمه ؟ قلت : الذي يحمل عليه عبارة الواقف أن قوله ، وقف على أولاده الذكور ، ليس قاصرا على أولاد صلبه بل عاما في جميع نسله الذكور الطبقة الأولى والثانية والثالثة ، وهكذا إلى آخر نسله ، فإن قلت : كيف تقول ذلك وكيف يسوغ لك هذا الحمل وهذا عندك في المنهاج ولا يدخل أولاد الأولاد في الوقف على الأولاد في الأصح ، فهذا إفتاء بالقول المرجوح . قلت : كلا ، غير أنك قاصر عن إدراك المدارك ، والمدرك في هذا الحمل أمور : الأول أن شراح المنهاج قالوا : إن محل الخلاف فيما إذا لم يرد الواقف جميعهم ، فإن أراد ذلك دخل أولاد الأولاد قطعا : ذكره ابن خيران في اللطيف ، وإرادة الواقف تعرف بالقرائن وقد قامت هنا وهي ما يذكر بعد هذا .
الأمر الثاني أن قوله : وأولاد أولادهم الذكور ، قرينة ظاهرة في أنه أراد بالأولاد جميع نسله لا أولاد صلبه فقط ، ونص على هذا الفرع بخصوصه وهو الطبقة الثالثة ليبين شرطها الخاص بها ، وهو أن يكون ممن ينسب إلى الواقف بأن يكون من ذرية أولاد أولاده الذكور لا من ذرية أولادهم الإناث ، ولو كان المراد بالأولاد الصلبية فقط لزم أن يعطى الأولاد وأولاد أولادهم دون أولادهم ، وهو خلاف الظاهر .
الثالث : أنه ليس المراد أيضا بأولاد أولادهم طبقة مخصوصة بل هو عام في كل طبقة من النسل ، وإن بعدت ، لا يعطى من طبقات النسل إلا من يدلي إلى الواقف بمحض الذكور ولا يعطى من أدلى بإناث ، فكما أن هذا عام في أولاد أولادهم لصلبهم ومن سفل ، فكذلك قوله ، على أولاده ، عام فيمن هم لصلبه ومن سفل .
الرابع : لو أخذنا بالخصوص وقلنا : الأولاد خاص بالصلبية دون أولاد الأولاد لكان الثاني أيضا كذلك وهو قوله ، وأولاد أولادهم ، فلم يكن يعطى من أولاد أولادهم إلا طبقة واحدة وهم أولادهم لصلبهم ، وكان يحرم جميع الطبقات بعدهم وينقرض أهل الوقف بانقراض الطبقة الثالثة ولا سبيل إلى ذلك .
الخامس : أن الألفاظ يراعى فيها عرف أربابها ، والواقف لهذا الوقف والحاكم به والموثق كلهم حنفية ، ومذهب الحنفية أن الوقف على الأولاد يدخل فيه أولاد البنين .
قال في المحيط : لو يدخل فيه أولاده لصلبه وأولاد أبنائه ، وفي أولاد البنات روايتان عن وقف على ولده محمد أنهم يدخلون فيه ؛ لأن اسم الولد يتناولهم ؛ لأن الولد اسم [ ص: 195 ] المتولد متفرع من الأصل ، وأولاد البنات متفرعة متولدة من الأم وأمهم متولدة من الجد ، فكانت بواسطة الأم مضافة إلى الجدة ، وقال في موضع آخر : لو ، دخل فيه البطون كلها ؛ لعموم اسم الأولاد ، وقال في موضع آخر : لو قال : هذه صدقة على ولدي وولد ولدي وأولادهم ، دخل فيه البطون كلها ، وإن كثروا الأقرب والأبعد فيه سواء ؛ لأنه لما قال : أولادهم ، فقد ذكرهم مضافا إلى أولاده لا إلى نفس الواقف ، فقد ذكر أولادهم على العموم ، فيقع ذلك على البطون كلها . انتهى . قال : أرضي هذه صدقة موقوفة على أولادي
فعلم أن الواقف ومن وثق عنه اقتصر على لفظ الأولاد في الوقف لاعتقاده أنه شامل لجميع نسله بناء على مذهبه ، وزاد هذا المراد إيضاحا تنصيصه على شرط يختص ببعض الفروع النازلة ، فعلم أن مراده بقوله : على أولاده الذكور ، جميع نسله من صلبه ومن سفل ، فكذلك قوله : يكون وقفا على أولاده الإناث ، يكون مرادا به جميع الإناث من نسله ، من كانت لصلبه وبنات بنيه ، وخرج بنات بناته وبنات بنات بنيه ، بالشرط الذي شرطه ، ويرشح أن الواقف والموثق مشيا في لفظ أولاده على الشمول ، بناء على مذهبهما أن عبارة الواقف وجيزة جدا ليس فيها إلا هذا القدر المذكور في السؤال من غير بسط ولا إطناب كما يفعله موثقو بلادنا .
الأمر السادس : أن الذي زعم إخراج بنات البنين من البنين متمسكا بما تمسك به ، أخطأ خطأ ثانيا بعد خطئه أولا حيث رام إخراجهم من لفظ الأولاد مع دخولهم فيه في مذهبه ، وذلك أنه إذا نظر إلى قول الواقف : فإن لم يبق من أولاده الذكور يكون وقفا على أولاده الإناث ، فإن أخذ لفظ أولاده في الشقين على العموم في أولاد الصلب وأولاد البنين فهو المدعي ، ويلزمه أن يعطي بنات البنين ، وإن أخذه على الخصوص فيهما بأولاد الصلب قلنا له : يا غافل يلزمك أن لا تعطي من أولاد الأولاد أحدا ، فإنه رتب على فقد أولاده الذكور إعطاء أولاده الإناث ، وقد جعلت الأولاد فيهما خاصا بالصلبية ، فلزم أن تعطي بنات الصلب عند فقد ذكور الصلب وتصرفه إلى الجامع عند فقد إناث الصلب ، ويذهب أولاد الأولاد الذكور خائبين ، فيبقى قول الواقف : وأولاد أولادهم الذكور ، لاغيا لا يعمل به ، وهو باطل ، وإن أخذه على العموم في الشق الأول دون الثاني فهو تحكم بحت ، فتعين أن يكون معنى قوله : فإن لم يبق من أولاده الذكور ، أي : من فروعه ، صلبية ومن سفل ، يكون وقفا على أولاده الإناث ، أي : فروعه صلبية ومن سفل . هذا ما سنح في هذه المسألة ، والله أعلم .