فإن قال قائل : قد التزم عليه الصلاة والسلام في الأوقات الفاضلة ما التزمه مما قد علم ولم يلتزم في هذا الشهر ما التزمه في غيره . فالجواب أن ذلك لما علم من عادته الكريمة أنه يريد التخفيف عن أمته سيما فيما كان يخصه ، ألا ترى إلى أنه عليه السلام حرم المدينة مثل ما حرم إبراهيم مكة ، ومع ذلك لم يشرع في قتل صيده ولا شجره الجزاء تخفيفا على أمته ورحمة بهم ، فكان ينظر إلى ما هو من جهته وإن كان فاضلا في نفسه فيتركه للتخفيف عنهم ، فعلى هذا تعظيم هذا الشهر الشريف إنما يكون بزيادة الأعمال الزاكيات فيه والصدقات إلى غير ذلك من القربات ، فمن عجز عن ذلك ، فأقل أحواله أن يجتنب ما يحرم عليه ويكره له ؛ تعظيما لهذا الشهر الشريف ، وإن كان ذلك مطلوبا في غيره إلا أنه في هذا الشهر أكثر احتراما كما يتأكد في شهر رمضان وفي الأشهر الحرم ، فيترك الحدث في [ ص: 228 ] الدين ويجتنب مواضع البدع وما لا ينبغي ، وقد ارتكب بعضهم في هذا الزمن ضد هذا المعنى ، وهو أنه إذا دخل هذا الشهر العظيم تسارعوا فيه إلى اللهو واللعب بالدف والشبابة وغيرهما ويا ليتهم عملوا المغاني ليس إلا ، بل يزعم بعضهم أنه يتأدب ، فيبدأ المولد بقراءة الكتاب العزيز ، وينظرون إلى من هو أكثر معرفة بالتهوك والطرق المبهجة لطرب النفوس ، وهذا فيه وجوه من المفاسد ، ثم إنهم لم يقتصروا على ما ذكر ، بل ضم بعضهم إلى ذلك الأمر ، الخطر ، وهو أن يكون المغني شابا لطيف الصورة حسن الصوت والكسوة والهيئة ، فينشد التغزل ويتكسر في صوته وحركاته ، فيفتن بعض من معه من الرجال والنساء ، فتقع الفتنة في الفريقين ويثور من المفاسد ما لا يحصى ، وقد يؤول ذلك في الغالب إلى فساد حال الزوج وحال الزوجة ، ويحصل الفراق والنكد العاجل وتشتت أمرهم بعد جمعهم ، وهذه المفاسد مركبة على فعل المولد إذا عمل بالسماع ، فإن خلا منه وعمل طعاما فقط ونوى به المولد ودعا إليه الإخوان ، وسلم من كل ما تقدم ذكره ، فهو بدعة بنفس نيته فقط ؛ لأن ذلك زيادة في الدين وليس من عمل السلف الماضين ، واتباع السلف أولى ، ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد ، ونحن تبع فيسعنا ما وسعهم . انتهى .
وحاصل ما ذكره أنه لم يذم المولد بل ذم ما يحتوي عليه من المحرمات والمنكرات ، وأول كلامه صريح في أنه ينبغي أن يخص هذا الشهر بزيادة فعل البر وكثرة الخيرات والصدقات وغير ذلك من وجوه القربات ، وهذا هو عمل المولد الذي استحسناه ، فإنه ليس فيه شيء سوى قراءة القرآن وإطعام الطعام ، وذلك خير وبر وقربة ، وأما قوله آخرا : إنه بدعة ، فإما أن يكون مناقضا لما تقدم أو يحمل على أنه بدعة حسنة كما تقدم تقريره في صدر الكتاب أو يحمل على أن فعل ذلك خير ، والبدعة منه نية المولد كما أشار إليه بقوله : فهو بدعة بنفس نيته فقط ، وبقوله : ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد ، فظاهر هذا الكلام أنه كره أن ينوي به المولد فقط ، ولم يكره عمل الطعام ودعاء الإخوان إليه ، وهذا إذا حقق النظر لا يجتمع مع أول كلامه ؛ لأنه حث فيه على زيادة فعل البر وما ذكر معه على وجه الشكر لله تعالى ؛ إذ أوجد في هذا الشهر الشريف سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ، وهذا هو معنى نية المولد ، فكيف يذم هذا القدر مع الحث عليه أولا ؟ وأما مجرد فعل البر وما ذكر معه من غير نية أصلا ، فإنه لا يكاد يتصور ، ولو تصور لم يكن عبادة ولا ثواب فيه ؛ إذ لا عمل إلا بنية ، ولا نية هنا إلا [ ص: 229 ] الشكر لله تعالى على ولادة هذا النبي الكريم في هذا الشهر الشريف ، وهذا معنى نية المولد ، فهي نية مستحسنة بلا شك ، فتأمل .
ثم قال ابن الحاج : ومنهم من يفعل المولد لا لمجرد التعظيم ، ولكن له فضة عند الناس متفرقة كان قد أعطاها في بعض الأفراح أو المواسم ويريد أن يستردها ، ويستحي أن يطلبها بذاته ، فيعمل المولد حتى يكون ذلك سببا لأخذ ما اجتمع له عند الناس ، هذا فيه وجوه من المفاسد ، منها : أنه يتصف بصفة النفاق ، وهو أن يظهر خلاف ما يبطن ؛ إذ ظاهر حاله أنه عمل المولد يبتغي به الدار الآخرة ، وباطنه أنه يجمع به فضة ، ومنهم من يعمل المولد لأجل جمع الدراهم أو طلب ثناء الناس عليه ومساعدتهم له ، وهذا أيضا فيه من المفاسد ما لا يخفى . انتهى . وهذا أيضا من نمط ما تقدم ذكره ، وهو أن الذم فيه إنما حصل من عدم النية الصالحة لا من أصل عمل المولد .
وقد سئل شيخ الإسلام حافظ العصر أبو الفضل ابن حجر عن ، فأجاب بما نصه : أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة ، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها ، فمن تحرى في عملها المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة وإلا فلا ، قال : وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت وهو ما ثبت في الصحيحين من عمل المولد المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء ، فسألهم فقالوا : هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى موسى فنحن نصومه شكرا لله تعالى ، فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما من به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة ، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة ، والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة ، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم ؟ وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم موسى في يوم عاشوراء ، ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر ، بل توسع قوم فنقلوه إلى يوم من السنة ، وفيه ما فيه . فهذا ما يتعلق بأصل عمله .
وأما ما يعمل فيه فينبغي أن يقتصر فيه على ما يفهم الشكر لله تعالى من نحو ما تقدم ذكره من التلاوة والإطعام والصدقة وإنشاد شيء من المدائح النبوية والزهدية المحركة للقلوب إلى فعل الخير والعمل للآخرة ، وأما ما يتبع ذلك من السماع واللهو وغير ذلك فينبغي أن يقال : ما كان من ذلك مباحا بحيث يقتضي السرور بذلك اليوم لا بأس بإلحاقه به ، وما كان حراما أو مكروها فيمنع ، وكذا ما كان خلاف الأولى . انتهى .
[ ص: 230 ] قلت : وقد ظهر لي تخريجه على أصل آخر ، وهو ما أخرجه عن البيهقي أنس مع أنه قد ورد أن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة عبد المطلب عق عنه في سابع ولادته ، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية ، فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم إظهار للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين وتشريع لأمته كما كان يصلي على نفسه لذلك ، فيستحب لنا أيضا إظهار الشكر بمولده بالاجتماع وإطعام الطعام ونحو ذلك من وجوه القربات وإظهار المسرات ، ثم رأيت إمام القراء الحافظ شمس الدين ابن الجزري قال في كتابه المسمى "عرف التعريف بالمولد الشريف" ما نصه : قد رؤي أبو لهب بعد موته في النوم ، فقيل له : ما حالك ، فقال : في النار ، إلا أنه يخفف عني كل ليلة اثنين وأمص من بين أصبعي ماء بقدر هذا - وأشار لرأس أصبعه - وأن ذلك بإعتاقي لثويبة عندما بشرتني بولادة النبي صلى الله عليه وسلم وبإرضاعها له . فإذا كان أبو لهب الكافر الذي نزل القرآن بذمه جوزي في النار بفرحه ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم به ، فما حال المسلم الموحد من أمة النبي صلى الله عليه وسلم يسر بمولده ويبذل ما تصل إليه قدرته في محبته صلى الله عليه وسلم ؛ لعمري إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله جنات النعيم . وقال الحافظ شمس الدين ابن ناصر الدين الدمشقي في كتابه المسمى "مورد الصادي في مولد الهادي" : قد صح أن أبا لهب يخفف عنه عذاب النار في مثل يوم الاثنين لإعتاقه ثويبة سرورا بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أنشد :
إذا كان هذا كافرا جاء ذمه وتبت يداه في الجحيم مخلدا أتى أنه في يوم الاثنين دائما
يخفف عنه للسرور بأحمدا فما الظن بالعبد الذي طول عمره
بأحمد مسرورا ومات موحدا
( فائدة ) قال ابن الحاج : فإن قيل : ما الحكمة في كونه عليه الصلاة والسلام خص مولده [ ص: 231 ] الكريم بشهر ربيع الأول ويوم الاثنين ولم يكن في شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن وفيه ليلة القدر ، ولا في الأشهر الحرم ولا في ليلة النصف من شعبان ولا في يوم الجمعة وليلتها ؟ فالجواب من أربعة أوجه :
الأول : ما ورد في الحديث من أن الله خلق الشجر يوم الاثنين ، وفي ذلك تنبيه عظيم ، وهو أن خلق الأقوات والأرزاق والفواكه والخيرات التي يمتد به بنو آدم ويحيون وتطيب بها نفوسهم .
الثاني : أن في لفظة ربيع إشارة وتفاؤلا حسنا بالنسبة إلى اشتقاقه ، وقد قال أبو عبد الرحمن الصقلي : لكل إنسان من اسمه نصيب .
الثالث : أن فصل الربيع أعدل الفصول وأحسنها ، وشريعته أعدل الشرائع وأسمحها .
الرابع : أن الحكيم سبحانه أراد أن يشرف به الزمان الذي ولد فيه ، فلو ولد في الأوقات المتقدم ذكرها لكان قد يتوهم أنه يتشرف بها . تم الكتاب ، ولله الحمد والمنة .