مسألة : رجل حكم بحكم فأنكره عليه قضاة بلده ، فقال له سلطان البلد : ارجع عن هذا الحكم فإنه لم يوافقك عليه أحد ، فأبى وحلف أنه لا يرجع لقول أحد ، ولو قام الجناب العالي عليه الصلاة والسلام من قبره ما سمعت له ، حتى يريني النص ، فهل يكفر بهذا ؟ ثم قال بعد مدة : لو سبني نبي مرسل ، أو ملك مقرب لسببته ، وصار يفتي العامة والسوقة بجواز هذا .
الجواب : أما قوله الأول وهو قوله : لا يرجع لأحد ولو قام صلى الله عليه وسلم من قبره ما سمع له حتى يريه النص ، فهذا له ثلاثة أحوال : الأول : أن يكون هذا صدر منه على وجه سبق اللسان وعدم القصد ، وهذا هو الظن [ ص: 284 ] بالمسلم واللائق بحاله ، ولعله أراد مثلا أن يقول : ولو قام مالك من قبره ، فسبق لسانه إلى الجناب الرفيع لحدة حصلت عنده فهذا لا يكفر ولا يعزر إذا عرف بالخير قبل ذلك ، ويقبل منه دعوى سبق اللسان ، ولا يكتفى منه في خاصة نفسه بذلك ، بل عليه أن يظهر الندم على ذلك ، وينادي على نفسه في الملأ بالخطأ ، ويبالغ في التوبة والاستغفار ، ويحثو التراب على رأسه ، ويكثر من الصدقة والعتق والتقرب إلى الله تعالى بوجوه البر ، والاستقالة من هذه العثرة .
الحال الثاني : أن لا يكون على وجه سبق اللسان ، ولا على وجه الاعتقاد الذي يذكره المصمم ، فيقول مثلا : لو أمرني الإنس والجن بهذا ما سمعت لهم ، ولو روجع في خاصة نفسه لقال : ما أردت ظاهر العبارة ، ولو قام النبي صلى الله عليه وسلم من قبره حقيقة ، وقال لي : لبادرت إلى امتثال قوله ، وسمعت من غير تلعثم ، ولا توقف ، ولكن هذه عبارة قلتها على وجه المبالغة ؛ لعلمي بأن قيامه الآن من قبره وقوله لي غير كائن وهو محال عادة ، فهذا لا يكفر ، ولكنه أتى بعظيم من القول ؛ فيعزل من الحكم بين المسلمين ، ويعزر تعزيرا لائقا به من غير أن ينتهي إلى حد القتل .
الحال الثالث : أن يكون على وجه الاعتقاد ، بحيث يعتقد في نفسه أنه لو كان النبي صلى الله عليه وسلم حيا ، وقال له : الحكم بخلاف ما حكمت لم يسمع له وهذا كفر نعوذ بالله منه ، قال الله تعالى : ( قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين ) ، وقال تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) ، وقصة الذي حكم له النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرض بحكمه ، وجاء إلى - رضي الله عنه - ليحكم له فقتله عمر بن الخطاب عمر بالسيف مشهورة ، وقد أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه ، والعجب من قوله : ما سمعت له حتى يريني النص ، وقوله صلى الله عليه وسلم نفسه : هو النص فأي نص يريه بعد قوله ؟ والظن بالمسلم إنه لا يقول ذلك عن اعتقاد ، والله أعلم .
وأما قوله الثاني فمن أخطأ الخطأ وأقبحه ، وأشد من قول هذه المقالة في السوء الإفتاء بإباحتها ، فأما أصل المقالة وهو أن ، فالجواب فيها كما قال يقول قائل : لو سبني نبي ، أو ملك لسببته ابن رشد ، وابن الحاج : أنه يعزر على ذلك التعزير البليغ ؛ بالضرب [ ص: 285 ] والحبس ، وأما إباحته للناس أن يقولوا ذلك فمرتبة أخرى فوق ذلك في السوء ؛ لأنه إغراء للعامة على ارتكاب الحرام واستحلاله ، وغض من منصب الأنبياء والملائكة عليهم السلام ، وكيف يتصور أن يباح هذا لأحد والأنبياء عليهم السلام معصومون ، فلا يسبون إلا من أمر الشرع بسبه ؟ ومن سب بالشرع لم يجز له أن يسب سابه ، فالمسألة مستحيلة من أصلها ، فالجواب : ردع هذا الرجل وزجره وهجره في الله ، وعليه التوبة والإنابة والإقلاع .