ومنهم المتوكل السابح والمتجرد الرائح كان لفنون العلم جامعا ، وكلامه للقلوب نافعا ، شيخ القوم ولسانهم في المحبة والشوق والأنس والقرب وموارد القلوب ، ومعاني الخطوب ، وصفاء الذكر ، ونقاء السر يحث على تصحيح الأعمال ، والتخفف عن الأثقال ، جالس ، الإمام أحمد بن حنبل ، وكان يقول : وبشر بن الحارث ، ولا تكون له رئاسة ، لا يكون الصوفي صوفيا حتى لا يسمع له صوت ولا يوطأ له عقب ، كان مولى أبو حمزة محمد بن إبراهيم البغدادي ، عرف له آيات وكرامات ، تقدم له ذكر . عيسى بن أبان القاضي
حدثنا أحمد بن محمد بن مقسم ، حدثني أبو بكر الخياط الصوفي قال : سمعت أبا حمزة ، يقول : " ، فبينا أنا أسير ذات ليلة والنوم في عيني إذ وقعت في بئر فرأيتني قد حصلت فيها فلم أقدر على الخروج لبعد مرتقاها وطولها فجلست فيها ، فبينا أنا جالس إذ وقف على رأسها رجلان ، فقال أحدهما لصاحبه : لا نجوز ونترك هذه في طريق السابلة والمارة ، فقال [ ص: 321 ] الآخر : فما نصنع ؟ قال : نطمسها ؟ قال : فبدرت نفسي أن تقول : أنا فيها ، فتوقفت فنوديت : تتوكل علينا وتشكو بلاءنا إلى سوانا ؟ فسكت ، فمضيا ثم رجعا ومعهما شيء جعلاه على رأسها غطوها به ، فقالت لي نفسي : أمنت طمها ولكن حصلت مسجونا فيها فمكثت يومي وليلتي ، فلما كان الغد ناداني شيء يهتف بي ولا أراه : تمسك بي شديدا ، فظننت أنه جني فمددت يدي ألتمس ما أريد أن أتمسك به فوقعت يدي على شيء خشن فتمسكت فعلاها وطرحني فتأملت فوق الأرض فإذا هو سبع ، فلما رأيته لحق نفسي من ذلك ما يلحق من مثله ، فهتف بي هاتف : يا سافرت سفرة على التوكل أبا حمزة استنقذناك من البلاء بالبلاء وكفيناك ما تخاف "
قال الشيخ : هذه الحكاية قد تقدمت فيما رويته عن عمرو بن نفيل ، عن وأعدتها لأن رواية الشبلي ابن مقسم أعلى .
أخبرني جعفر بن محمد بن نصير ، في كتابه قال : حدثني ، قال : قال أبو بكر الكتاني أبو الأزهر وجماعة من إخواننا : اجتمع نفر على باب يفتحونه فلم ينفتح فقال لهم أبو حمزة : " تنحوا فأخذ الغلق بيده فحركه وقال : بكذا إلا فتحته فانفتح ، وكان يقول : اللهم إنك تعلم أني من أفقر خلقك إليك ، فإن كنت تعلم أن فقري إليك بمعنى هو غيرك فلا تسد فقري ، وكان يقول : " . إذا صاح المحب للدنيا فإنما ذاك شيطان يصيح في جوفه
وحكى لي عبد الواحد بن بكر ، قال : حدثني محمد بن عبد العزيز ، قال : سمعت أبا عبد الله الرملي ، يقول : تكلم أبو حمزة في جامع طرسوس فقبلوه فبينا هو ذات يوم يتكلم إذ صاح غراب على سطح الجامع فزعق أبو حمزة ، وقال : " لبيك لبيك ، فنسبوه إلى الزندقة وقالوا : حلولي زنديق ، فشهدوا وأخرج وبيع فرسه بالمناداة على باب الجامع ، هذا فرس الزنديق ، فذكر أبو عمرو البصري ، قال : ابتعته والناس وراءه يخرجونه من باب الشام فرفع رأسه إلى السماء وقال :
لك من قلبي المكان المصون كل صعب علي فيك يهون
وأخبرني جعفر بن محمد بن نصير ، في كتابه عن أبي بكر الكتاني ، قال : سمعت أبا حمزة ، يقول : " " . لولا الغفلة لمات الصديقون من روح ذكر الله
وحكى [ ص: 322 ] عنه ، قال : قال خير النساج أبو حمزة : " إني لأستحي من الله أن أدخل البادية على شبع وأنا معتقد للتوكل فيكون شبعي زادا تزودته ، ، فقال : ضيق الصدر من معاشرة الخلق ، وكان يقول : من استشعر الموت حبب إليه كل باق وبغض إليه كل فان ، ومن استوحش من نفسه أنس قلبه بموافقة مولاه ، وقال لبعض أصحابه : خف سطوة العدل ، وارج دقة الفضل ، ولا تأمن مكره وإن أنزلك الجنان ، ففي الجنة وقع لأبيك وسئل عن الأنس آدم عليه السلام ما وقع وقد يقطع بقوم فيها فيقال لهم : ( كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية ) ، فشغلهم عنه بالأكل والشرب ، ولا مكر فوق هذا ، ولا حسرة أعظم منه ، وسئل : أيفزع المحب إلى شيء سوى محبوبه ؟ فقال : لا إنه بلاء دائم وسرور منقطع وأوجاع متصلة لا يعرفها إلا من باشرها وأنشد :
يلاقي الملاقي شجوه دون غيره وكل بلاء عند لاقيه أوجع
وكان يقول : من نصح لنفسه كرمت عليه ، ومن تشاغل عن نصيحتها هانت عليه ، ومن خصه الله بنظرة شفقة فإن تلك النظرة تنزله منازل أهل السعادة ، وتزينه بالصدق ظاهرا وباطنا ، والعارف يخاف زوال ما أعطي ، والخائف يخاف نزول ما وعد ، والعارف يدافع عيشه يوما بيوم ويأخذ عيشه ليوم " .