ومنهم المتبتل المتوكل ، تبتل عن الخلق وتوكل على الحق ، أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد الخواص ، له في التوكل الحال المشهور والذكر المنشور .
سمعت أبا محمد بكر بن أحمد بن المفيد يقول : سمعت أبا بكر محمد بن عبد الله الأنصاري يقول : سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن أحمد الخواص يقول : " ، وإن لإبليس وثاقين ما أوثق بني آدم بأوثق منهما : خوف الفقر والطمع " . من لم يصبر لم يظفر
[ ص: 326 ] وسمعت أبا بكر يقول : سمعت محمدا يقول : سمعت إبراهيم الخواص يقول : " من أن تكون أوقاته مستوية في الانبساط لفقره صائنا له محتاطا لا تظهر عليه فاقة ولا تبدو منه حاجة ، أقل أخلاقه الصبر والقناعة ، راحته في القلة ، وتعذيبه في الكثرة ، مستوحش من الرفاهات متنعم بالخشونات ، فهو بضد ما فيه الخليقة يرى ما هو عليه معتمده ، وإليه مستراحه ليس له وقت معلوم ، ولا سبب معروف ، فلا تراه إلا مسرورا بفقره فرحا بضره ، مؤنته على نفسه ثقيلة وعلى غيره خفيفة ، يعز الفقر ويعظمه ، ويخفيه بجهده ويكتمه ، حتى عن أشكاله يستره ، قد عظمت من الله تعالى عليه فيه المنة ، وجل قدرها في قلبه من نعمة فليس يريد بما اختار الله له بدلا ولا يبغي عنه حولا ، فمن نعوتهم اثنتا عشرة خصلة : أولها أنهم كانوا بوعد الله مطمئنين ، والثانية من الخلق آيسين ، والثالثة عداوتهم للشياطين ، والرابعة كانوا من حيث الحق في الأشياء خارجين ، والخامسة كانوا على الخلق مشفقين ، والسادسة كانوا لأذى الناس محتملين ، والسابعة كانوا لمواضع العداوة لا يدعون النصيحة لجميع المسلمين ، والثامنة كانوا في مواطن الحق متواضعين ، والتاسعة كانوا بمعرفة الله مشتغلين ، والعاشرة كانوا الدهر على طهارة ، والحادية عشرة كان الفقر رأس مالهم ، والثانية عشرة كانوا في الرضا فيما قل أو كثر وأحبوا أو كرهوا عن الله واحدا . فهذه جملة من صفاتهم يقصر وصف الواصفين عن أسبابهم ، وكان يقول : أربع خصال عزيزة : عالم مستعمل لعلمه ، وعارف ينطق عن حقيقة فعله ، ورجل قائم لله بلا سبب ، ومريد ذاهب عن الطمع ، وقال : الحكمة تنزل من السماء فلا تسكن قلبا فيه أربعة : الركون إلى الدنيا ، وهم غد ، وحب الفضول وحسد أخ ، قال : ولا يصح الفقر للفقير حتى تكون فيه خصلتان : إحداهما الثقة بالله والأخرى الشكر لله فيما زوي عنه مما ابتلي به غيره من الدنيا ، ولا يكمل الفقير حتى يكون نظر الله له في المنع أفضل من نظره له في العطاء ، وعلامة صدقه في ذلك أن يجد للمنع من الحلاوة ما لا يجد للعطاء ، لا يعرفه غير بارئه الذي خصه بمعرفته وأياديه ، فهو لا يرى سوى مليكه ولا يملك إلا ما كان من [ ص: 327 ] تمليكه ، فكل شيء له تابع وكل شيء له خاضع " . صفة الفقير
قال : وسمعت أبا إسحاق يقول : " ، وقال : من أراد الله لله بذل له نفسه وأدناه من قربه ، ومن أراده لنفسه أشبعه من جنانه وأرواه من رضوانه
عليل ليس يبرئه الدواء طويل الضر يفنيه الشفاء سرائره بواد ليس تبدو
خفيات إذا برح الخفاء
أخبرني محمد بن نصير في كتابه ، وأخبرني عنه أبو الفضل الطوسي قال : بت ليلة مع إبراهيم فانتبهت فإذا هو يناجي إلى الصباح وهو يقول :
برح الخفاء وفي التلاقي راحة هل يشتفي خل بغير خليله
قال : وسمعت إبراهيم بن أحمد ، يقول : " " . من لم تبك الدنيا عليه لم تضحك الآخرة له
سمعت محمد بن أحمد ، يقول : سمعت أبا بكر الأنصاري ، يقول : سمعت إبراهيم الخواص ، يقول : " ويقيم له شاهد الأنس بالله . وعلم العبد بأن الخلق مسلطون مأمورون يزيل عنه خوفهم ويقيم في قلبه خوف المسلط لهم " . علم العبد بقرب قيام الله على العبد يوحشه من الخلق
سمعت محمد بن الحسين بن موسى ، يقول : سمعت أحمد بن علي بن جعفر ، يقول : سمعت الأزدي ، يقول : سمعت إبراهيم الخواص ، يقول : " : قراءة القرآن بالتدبر ، وخلاء البطن ، وقيام الليل ، والتضرع عند السحر ، ومجالسة الصالحين " . دواء القلب خمسة أشياء
وقال إبراهيم : " ويقيم له العز في قلوب المؤمنين ، فذلك قوله تعالى : ( على قدر إعزاز المؤمن لأمر الله يلبسه الله من عزه ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) " .
وقال إبراهيم : " ، ومقامها أعلى المقامات ، وكرامتها أفضل الكرامات ، وذكرها أشرف الأذكار ، وبذكرها تستجلب الأنوار عليها وقع الخطاب وهي المخصوصة بالتنبيه والعتاب " . عقوبة القلب أشد العقوبات
سمعت أبا بكر محمد بن أحمد يقول : سمعت محمد بن عبيد الله الأنصاري ، يقول : سمعت إبراهيم بن أحمد الخواص ، يقول : " ، والغني يعمل على كثرة الوساوس وتفرقة القلب [ ص: 328 ] في مواضع الأعمال ، والفقير ضعف بدنه في العمل قوة معرفته وصحة توكله ، والفقير يعمل على إدراك حقيقة الإيمان وبلوغ ذروته ، والغني يعمل على نقصان في إيمانه وضعف من معرفته ، والفقير يفتخر بالله عز وجل ويصول به ، والغني يفتخر بالمال ويصول بالدنيا ، والفقير يذهب حيث شاء ، والغني مقيد مع ماله ، والفقير يكره إقبال الدنيا ، والغني يحب إقبالها ، والفقير فوق ما يقول والغني دون ما يقول ، والناس رجلان رجل وعبد ، فالرجل مهموم بتدبير نفسه متعوب بالسعي في مصلحته ، والعبد طرح نفسه في ظل الربوبية وكان من حيث العبودية ، وعلى قدر حسن قبول العبد عن الله تكون معونة الله له . والمتوكلون الواثقون بضمانه غابوا عن الأوهام وعيون الناظرين ، فعظم خطر ما أوصلهم إليه وجل قدر ما حملهم عليه وعظمت منزلتهم لديه ، فيا طيب عيش لو عقل ، ويا لذة وصل لو كشف ، ويا رفعة قدر لو وصف ، وفي ذلك يقول : الفقير يعمل على الإخلاص وجلاء القلب وحضوره للعمل
معطلة أجسامهم لا عيونهم ترى ما عليهم من قضاياه قد يجري
جوارحهم عن كل لهو وزينة محجبة ما أن تمر إلى أمر
فهم أمناء الله في أهل أرضه ملوك كرام في البراري وفي البحر
رءوسهم مكشوفة في بلادهم وهم بصواب الأمر أسبابهم تجري
عدول ثقات في جميع صفاتهم أرق عباد الله مع صحة السر
هنيئا لمغبوط يصول بسيد يعادل قرب الأمر والبعد في الفكر
فيا زلفة للعبد عند مليكه فصار كمن في المهد ربي وفي الحجر
ويا حسرة المحجوب عن قدر ربه بأدناسه في نفسه وهو لا يدري
قال : والعارف بالله يحمله الله بمعرفته ، وسائر الناس تحملهم بطونهم ومن نظر الأشياء بعين الفناء كانت راحته في مفارقتها ، ولم يأخذ منها إلا لوقته ، قال : والرزق ليس فيه توكل إنما فيه صبر حتى يأتي الله به في وقته الذي وعد وإنما يقوى صبر العبد على قدر معرفته بما صبر له أو لمن صبر ، والصبر ينال بالمعرفة وعلى الصابر حمل مئونة الصبر حتى يستحق ثواب الصابرين ; لأن الله تعالى جعل الجزاء بعد الصبر ، قال الله تعالى : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ) [ ص: 329 ] ( قال إني جاعلك للناس إماما ) ، فالجزاء إنما وقع له عليه السلام بعد ما أتم حمل البلوى " .
وقال : وسمعت أبا إسحاق ، يقول : " الحركة للمريدين طهارة ولسائر الناس إباحة ، وللمخصوصين عقوبة لهم إذا مالوا إلى ما فيه الحظ لأنفسهم لأن الأسباب إنما تبطئ على العارفين وتمتنع عن الحركة إليهم لما فيهم من الحركة إليها فإذا فنيت آثارها تحركت إليهم وأقبل الملك بكليته عليهم ، ، وكل مريد يتوجه إلى الله وهموم الأرزاق قائمة في قلبه فإنه لا يفلح ولا ينفذ في توجهه " . وكفى بالثقة بالله مع صدق الانقطاع إليه حياطة من العبد لنفسه وأهله وولده
قال : وسمعت أبا إسحاق ، يقول : " خلع الحول والقوة وترك التملك مع الله في شيء من ملكه ، ودوام حضور القلب بالحياء من الله ، وشدة انكسار القلب من هيبة الله ، فهذه الأحوال دلائل المعارف والحقيقة ، فمن لم يكن على هذه الأحوال فإنما هو على الأسماء والصفات ، قال : وسمعته يقول : علامة حقيقة المعرفة بالقلب : على الصبر والرضا والمحبة ، لأنه إذا توكل وجب عليه أن يصبر على توكله بتوكله لمن توكل عليه ، وإذا صبر وجب عليه أن يرضى بجميع ما حكم عليه ، وإذا رضي وجب عليه أن يكون محبا لكل ما فعل به موافقة له . قال الشيخ : كان التوكل على ثلاث درجات أبو إسحاق من المحققين في التوكل المنخلعين من حظوظهم التاركين لأحكام نفوسهم ، فكان الحق يحملهم ويلطفهم بلطائف لطفه .
من ذلك ما أخبرنيه عبد الواحد بن بكر ، حدثني محمد بن عبد العزيز قال : سمعت أبا بكر الحربي ، يقول : قلت لإبراهيم الخواص : حدثني بأحسن شيء مر عليك فقال : " خرجت من مكة عن طريق الجادة ، واعتقدت فيما بيني وبين الله تعالى ألا أذوق شيئا أو أنظر إلى القادسية ، فلما صرت بالربذة إذ أنا بأعرابي يعدو وبيده السيف مسلول ، وبيده الأخرى قعب لبن ، فقلت : هذا شيء ليس لي فيه شيء فأخذت فشربته فلا والله ما عارضني شيء بعد ذلك إلى أن بلغت فصاح بي : يا إنسان ، فلم ألتفت إليه فلحقني فقال : اشرب هذا ، وإلا ضربت عنقك القادسية " .
وفيما حدث به عبد الواحد ، عن قال : سمعت همام بن الحارث إبراهيم [ ص: 330 ] الخواص ، يقول : " ركبت البحر وكان معي في المركب رجل يهودي فتأملته أياما كثيرة لا أراه يذوق شيئا ولا يتحرك ولا ينزعج من مكانه ولا يتطهر ولا يشتغل بشيء وهو ملتف بعباء مطروح في زاوية ولا يفاتح أحدا ولا ينطق ، فسألته وكلمته فوجدته مجردا متوكلا يتكلم فيه بأحسن كلام ويأتي بأكمل بيان ، فلما أنس بي وسكن إلي قال لي : يا أبا إسحاق ، إن كنت صادقا فيما تدعيه فالبحر بيننا حتى نعبر إلى الساحل - وكنا في اللجج - فقلت في نفسي : واذلاه إن تأخرت عن هذا الكافر ، فقلت له : قم بنا ، فما كان بأسرع بأن زج بنفسه في البحر ورميت بنفسي خلفه فعبرنا جميعا إلى الساحل ، فلما خرجنا قال : يا إبراهيم ، نصطحب على شريطة ألا نأوي المساجد ، ولا البيع ولا الكنائس ، ولا العمران فنعرف ، فقلت : لك ذلك حتى أتينا مدينة فأقمنا على مزبلة ثلاثة أيام فلما كان يوم الثالث أتاه كلب في فمه رغيفان فطرحهما بين يديه وانصرف فأكل ولم يقل لي شيئا ، ثم ، فلم يفعل ثم أسلم وقال لي : يا أتاني شاب ظريف نظيف حسن الوجه والبزة طيب الرائحة ومعه طعام نظيف في منديل فوضعه بين يدي وقال لي : كل وغاب عني فلم أر له أثرا فقلت لليهودي : هلم إبراهيم ، أصلنا صحيح إلا أن الذي لكم أحسن وأصلح وأظرف ، وحسن إسلامه ، وصار أحد أصحابنا المتحققين بالتصوف " .
حدثنا عبد الواحد ، ثنا قال : سمعت أحمد بن العلاء محمد بن عبد الله ، يقول : سمعت إبراهيم الخواص ، وقد سأله بعض أصحابنا وهو يتأوه : ما هذا التأوه ؟ فقال : " أوه ، ؟ ثم أنشأ يقول : كيف يفلح من يسره ما يضره
تعودت مس الضر حتى ألفته وأحوجني طول البلاء إلى الصبر
وقطعت أيامي من الناس آيسا لعلمي بصنع الله من حيث لا أدري
وذكر خير النساج ، قال : قال لي إبراهيم الخواص : " عطشت عطشا شديدا بالحاجز فسقطت من شدة العطش فإذا أنا بماء ، قد سقط على وجهي وجدت برده على فؤادي ففتحت عيني فإذا أنا برجل ما رأيت أحسن منه قط على فرس أشهب عليه ثياب خضر وعمامة صفراء وبيده قدح أظنه قال من ذهب [ ص: 331 ] أو من جوهر فسقاني منه شربة وقال لي : ارتدف خلفي فارتدفت فلم يبرح من مكانه حتى قال لي : ما ترى ؟ قلت : المدينة ، قال : " . انزل واقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام وقل له : أخوك رضوان يقرأ عليك السلام
يحكى عن أبي إسحاق لطائف من صنع الله للمتحققين المخلصين في التوكل اقتصرنا منها على ما ذكرنا ، ومن وثق بالله وسكن إلى ضمانه فيما ضمن من الكفاية فالألطاف عنه لا تنقطع ، ومواد إنعامه عليه غير ممتنع .