كذلك أمر الله اليوم وقبل ذلك أمره فيمن مضى ، [ ص: 141 ] لأن حجة الله بالغة ، والعذر بارز ، وكل مواف الله ولما عمل ، ثم يكون القضاء من الله في عباده على أحد أمرين : فمقضي له رحمته وثوابه فيا لها نعمة وكرامة ، ومقضي له سخطه وعقوبته فيا لها حسرة وندامة ، ولكن حق على من جاءه البيان من الله بأن هذا أمره وهو واقع أن يصغر في عينه ما هو عند الله صغير ، وأن يعظم في نفسه ما هو عند الله عظيم ، أوليس ما ذكر الله من الكراهة لأهلها فيما بعد الموت والهوان ما يطيب نفس امرئ عن عيشة دنياه ، فإنها قد أذنت بزوال ، لا يدوم نعيمها ، ولا يؤمن فجائعها ، يبلى جديدها ، ويسقم صحيحها ، ويفتقر غنيها ، ميالة بأهلها ، لعابة بهم على كل حال . ففيها عبرة لمن اعتبر ، وبيان فعلام تنتظر .
يا ابن آدم أنت اليوم في دار هي لافظتك ، وكأن قد بدا لك أمرها ، وإلى انصرام ما تكون سريعا ، ثم يفضى بأهلها إلى أشد الأمور وأعظمها خطرا ، فاتق الله يا ابن آدم ، وليكن سعيك في دنياك لآخرتك ، فإنه ليس لك من دنياك شيء إلا ما صدرت أمامك ، فلا تدخرن عن نفسك مالك ، ولا تتبع نفسك ما قد علمت أنك تاركه خلفك ، ولكن تزود لبعد الشقة ، واعدد العدة أيام حياتك وطول مقامك قبل أن ينزل بك من قضاء الله ما هو نازل فيحول دون الذي تريد ، فإذا أنت يا ابن آدم قد ندمت حيث لا تغني الندامة عنك ، ارفض الدنيا ولتسخ بها نفسك ودع منها الفضل ، فإنك إذا فعلت ذلك أصبت أربح الأثمان من نعيم لا يزول ، ونجوت من عذاب شديد ليس لأهله راحة ولا فترة ، فاكدح لما خلقت له قبل أن تفرق بك الأمور فيشق عليك اجتماعها ، صاحب الدنيا بجسدك ، وفارقها بقلبك ، ولينفعك ما قد رأيت مما قد سلف بين يديك من العمر ، وحال بين أهل الدنيا وبين ما هم فيه ، فإنه عن قليل فناؤه ، ومخوف وباله ، وليزدك إعجاب أهلها بها زهدا فيها [ ص: 142 ] وحذرا منها ، فإن الصالحين كذلك كانوا .
واعلم يا ابن آدم أنك تطلب أمرا عظيما لا يقصر فيه إلا المحروم الهالك ، فلا تركب الغرور وأنت ترى سبيله ؛ ولا تدع حظك وقد عرض عليك ، وأنت مسئول ومقول لك ، فأخلص عملك ، وإذا أصبحت فانتظر الموت ، وإذا أمسيت فكن على ذلك ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وإن ، وأمر العباد بطاعة الله وطاعة رسوله ، فإنكم أصبحتم في دار مذمومة خلقت فتنة ، وضرب لأهلها أجل إذا انتهوا إليه يبيد . أخرج نباتها ، وبث فيها من كل دابة ، ثم أخبرهم بالذي هم إليه صائرون ، وأمر عباده فيما أخرج لهم من ذلك بطاعته ، وبين لهم سبيلها - يعني سبيل الطاعة - ووعدهم عليها الجنة ، وهم في قبضته ليس منهم بمعجز له ، وليس شيء من أعمالهم يخفى عليه ، سعيهم فيها شتى بين عاص ومطيع له ، ولكل جزاء من الله بما عمل ، ونصيب غير منقوص ، ولم أسمع الله تعالى فيما عهد إلى عباده وأنزل عليهم في كتابه رغب في الدنيا أحدا من خلقه ، ولا رضي له بالطمأنينة فيها ، ولا الركون إليها ، بل صرف الآيات وضرب الأمثال بالعيب لها ، والنهي عنها ، ورغب في غيرها . وقد بين لعباده أن الأمر الذي خلقت له الدنيا وأهلها عظيم الشأن ، هائل المطلع ، نقلهم عنه - أراه - إلى دار لا يشبه ثوابهم ثوابا ، ولا عقابهم عقابا ، لكنها دار خلود يدين الله تعالى فيها العباد بأعمالهم ثم ينزلهم منازلهم ، لا يتغير فيها بؤس عن أهلها ولا نعيم ، فرحم الله عبدا طلب الحلال جهده حتى إذا دار في يده وجهه وجهه الذي هو وجهه . أنجى الناس من عمل بما أنزل الله في الرخاء والبلاء
ويحك يا ابن آدم ما يضرك الذي أصابك من شدائد الدنيا إذا خلص لك خير الآخرة ؛ ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر ؛ هذا فضح القوم ، ألهاكم التكاثر عن الجنة عند دعوة الله تعالى وكرامته ، والله لقد صحبنا أقواما كانوا يقولون ليس لنا في الدنيا حاجة ، ليس لها خلقنا ، فطلبوا الجنة بغدوهم ورواحهم وسهرهم ، نعم والله ، حتى أهرقوا فيها دماءهم ، ورجوا فأفلحوا ونجوا . هنيئا لهم لا يطوي أحدهم ثوبا ، ولا يفترشه ، ولا تلقاه إلا صائما ذليلا متبائسا [ ص: 143 ] خائفا ، حتى إذا دخل إلى أهله إن قرب إليه شيء أكله وإلا سكت ، لا يسألهم عن شيء ما هذا وما هذا ، ثم قال :
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، قال : ثنا ، حدثني أبي ، قال : ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل محمد بن سابق ، قال : ثنا ، عن مالك بن مغول حميد . قال : بينما الحسن في يوم من رجب في المسجد وهو يمص ماء ويمجه ، تنفس تنفسا شديدا ثم بكى حتى ارتعدت منكباه ، ثم قال : ، إن ليلة تمخض عن صبيحة يوم القيامة ما سمع الخلائق بيوم قط أكثر فيه من عورة بادية ، [ ص: 144 ] ولا عين باكية ، من يوم القيامة . لو أن بالقلوب حياة ، لو أن بالقلوب صلاحا ، لأبكيتكم من ليلة صبيحتها يوم القيامة
حدثنا أحمد بن جعفر بن مالك ، قال : ثنا عبد الله بن أحمد ، حدثني أبي ، قال : ثنا محمد بن سابق ، قال : ثنا ، قال : قال ابن مغول الحسن : غدا كل امرئ فيما يهمه ، ومن هم بشيء أكثر من ذكره ، إنه لا عاجلة لمن لا آخرة له ، . ومن آثر دنياه على آخرته فلا دنيا له ولا آخرة
حدثنا أبو بكر بن مالك ، قال : ثنا عبد الله بن أحمد ، قال : ثنا علي بن مسلم ، قال : ثنا سيار ، قال : ثنا جعفر ، قال : ثنا إبراهيم بن عيسى اليشكري ، قال : سمعت الحسن ، ولا سلم من تبعتها ولا شرها ولا حسابها ، ولقد أخرج منها في خرق . إذا ذكر صاحب الدنيا يقول : والله ما بقيت له ولا بقي لها
حدثنا أحمد بن جعفر بن معبد ، قال : ثنا عبد الله بن محمد بن النعمان ، قال : ثنا محمد بن آدم المصيصي - وكان يقال إنه من الأبدال - قال :ثنا ، عن مخلد بن الحسين هشام ، عن الحسن في قوله عز وجل : ( هاؤم اقرءوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه ) . قال : ، وإن المنافق أساء الظن فأساء العمل . إن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل
حدثنا أبو مسعود عبد الله بن محمد بن أحمد الأديب ، قال : ثنا محمد بن أحمد بن سليمان الهروي ، قال : ثنا ، قال : ثنا أبو حاتم السجستاني ، قال : ثنا الأصمعي عيسى بن عمر ، قال : قال الحسن : حادثوا هذه القلوب فإنها سريعة الدثور ، ، وإنكم إن أطعتموها تنزل بكم إلى شر غاية . واقرعوا النفوس فإنها خليعة
حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله القاري ، قال : ثنا عبيد بن الحسن ، قال : ثنا سليمان بن داود ، قال : ثنا ، قال : ثنا أبو معاوية الضرير ، قال : سمعت العوام بن حوشب الحسن يقول : ، من يملك نفسه عند الرغبة والرهبة ، وعند الشهوة ، وعند الغضب . من كانت له أربع خلال حرمه الله على النار ، وأعاذه من الشيطان