وأما قوله تعالى : ( منهم من كلم الله    ) ففيه مسائل : 
المسألة الأولى : المراد منه من كلمه الله تعالى  ، والهاء تحذف كثيرا كقوله تعالى : ( وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين    ) [ الزخرف : 71 ] . 
المسألة الثانية : قرئ ( كلم الله ) بالنصب ، والقراءة الأولى أدل على الفضل ، لأن كل مؤمن فإنه يكلم الله على ما قال عليه السلام : " المصلي مناج ربه   " إنما الشرف في أن يكلمه الله تعالى ، وقرأ اليماني    : ( كالم الله ) من المكالمة ، ويدل عليه قولهم : كليم الله بمعنى مكالمه . 
المسألة الثالثة : اختلفوا في أن من كلمه الله فالمسموع هو الكلام القديم الأزلي ، الذي ليس بحرف ولا صوت أم غيره ؟ فقال الأشعري  وأتباعه : المسموع هو ذلك فإنه لما لم يمتنع رؤية ما ليس بمكيف ، فكذا لا يستبعد سماع ما ليس بمكيف ، وقال الماتريدي    : سماع ذلك الكلام محال ، وإنما المسموع هو الحرف والصوت . 
المسألة الرابعة : اتفقوا على أن موسى  عليه السلام مراد بقوله تعالى : ( منهم من كلم الله    )  قالوا وقد سمع من قوم موسى  السبعون المختارون وهم الذين أرادهم الله بقوله : ( واختار موسى قومه سبعين رجلا    ) [ الأعراف : 155 ] وهل سمعه محمد  صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ؟ اختلفوا فيه منهم من قال : نعم بدليل قوله : ( فأوحى إلى عبده ما أوحى    ) [ النجم : 10 ] . 
فإن قيل : إن قوله تعالى : ( منهم من كلم الله    ) المقصود منه بيان غاية منقبة أولئك الأنبياء الذين كلم الله تعالى ، ولهذا السبب لما بالغ في تعظيم موسى  عليه السلام ، قال : ( وكلم الله موسى تكليما    ) [ النساء : 164 ] ثم جاء في القرآن مكالمة بين الله وبين إبليس ، حيث قال : ( فأنظرني إلى يوم يبعثون  قال فإنك من المنظرين  إلى يوم الوقت المعلوم    ) [ الحجر : 36 - 38 ] إلى آخر هذه الآيات ، وظاهر هذه الآيات يدل على مكالمة كثيرة بين الله وبين إبليس فإن كان ذلك يوجب غاية الشرف فكيف حصل لإبليس الذم ؟ وإن لم يوجب شرفا فكيف ذكره في معرض التشريف لموسى  عليه السلام حيث قال : ( وكلم الله موسى تكليما    ) [ النساء : 164 ] ؟ 
والجواب : أن قصة إبليس ليس فيها ما يدل على أنه تعالى قال تلك الجوابات معه من غير واسطة فلعل   [ ص: 171 ] الواسطة كانت موجودة . 
أما قوله تعالى : ( ورفع بعضهم درجات    ) ففيه قولان : 
الأول : أن المراد منه بيان أن مراتب الرسل متفاوتة  ، وذلك لأنه تعالى اتخذ إبراهيم  خليلا ، ولم يؤت أحدا مثله هذه الفضيلة ، وجمع لداود  الملك والنبوة ولم يحصل هذا لغيره ، وسخر لسليمان  الإنس والجن والطير والريح ، ولم يكن هذا حاصلا لأبيه داود  عليه السلام ، ومحمد  عليه السلام مخصوص بأنه مبعوث إلى الجن والإنس وبأن شرعه ناسخ لكل الشرائع ، وهذا إن حملنا الدرجات على المناصب والمراتب ، أما إذا حملناها على المعجزات ففيه أيضا وجه ؛ لأن كل واحد من الأنبياء أوتي نوعا آخر من المعجزة لائقا بزمانه  ، فمعجزات موسى  عليه السلام ، وهي قلب العصا حية ، واليد البيضاء ، وفلق البحر ، كان كالشبيه بما كان أهل ذلك العصر متقدمين فيه وهو السحر ، ومعجزات عيسى  عليه السلام وهي إبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى ، كانت كالشبيه بما كان أهل ذلك العصر متقدمين فيه ، وهو الطب ، ومعجزة محمد  عليه السلام ، وهي القرآن كانت من جنس البلاغة والفصاحة والخطب والأشعار ، وبالجملة فالمعجزات متفاوتة بالقلة والكثرة ، وبالبقاء وعدم البقاء ، وبالقوة وعدم القوة ، وفيه وجه ثالث ، وهو أن يكون المراد بتفاوت الدرجات ما يتعلق بالدنيا ، وهو كثرة الأمة والصحابة وقوة الدولة ، فإذا تأملت الوجوه الثلاثة علمت أن محمدا  صلى الله عليه وسلم كان مستجمعا للكل فمنصبه أعلى ومعجزاته أبقى وأقوى وقومه أكثر ودولته أعظم وأوفر . 
القول الثاني : أن المراد بهذه الآية محمد  عليه السلام ، لأنه هو المفضل على الكل ، وإنما قال : ( ورفع بعضهم درجات    ) على سبيل التنبيه والرمز كمن فعل فعلا عظيما فيقال له : من فعل هذا؟ فيقول : أحدكم أو بعضكم ويريد به نفسه ، ويكون ذلك أفخم من التصريح به ، وسئل الحطيئة  عن أشعر الناس ، فذكر زهيرا   والنابغة  ، ثم قال : ولو شئت لذكرت الثالث أراد نفسه ، ولو قال : ولو شئت لذكرت نفسي لم يبق فيه فخامة . 
فإن قيل : المفهوم من قوله : ( ورفع بعضهم درجات    ) هو المفهوم من قوله : ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض    ) فما الفائدة في التكرير ؟ وأيضا قوله : ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض    ) كلام كلي ، وقوله بعد ذلك : ( منهم من كلم الله    ) شروع في تفصيل تلك الجملة ، وقوله بعد ذلك : ( ورفع بعضهم درجات    ) إعادة لذلك الكلي ، ومعلوم أن إعادة الكلام بعد الشروع في تفصيل جزئياته يكون مستدركا . 
والجواب : أن قوله : ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض    ) يدل على إثبات تفضيل البعض على البعض  ، فأما أن يدل على أن ذلك التفضيل حصل بدرجات كثيرة أو بدرجات قليلة فليس فيه دلالة عليه فكان قوله : ( ورفع بعضهم درجات    ) فيه فائدة زائدة فلم يكن تكريرا . 
أما قوله تعالى : ( ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا    ) ففيه سؤالات : 
السؤال الأول : أنه تعالى قال في أول الآية : ( فضلنا بعضهم على بعض    ) ثم عدل عن هذا النوع من الكلام إلى المغايبة فقال : ( منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات    ) ثم عدل من المغايبة إلى النوع الأول فقال : ( وآتينا عيسى ابن مريم البينات    ) فما الفائدة في العدول عن المخاطبة إلى المغايبة ثم عنها إلى المخاطبة مرة أخرى ؟ . 
 [ ص: 172 ] والجواب : أن قوله : ( منهم من كلم الله    ) أهيب وأكثر وقعا من أن يقال : منهم من كلمنا ، ولذلك قال : ( وكلم الله موسى تكليما    ) [ النساء : 164 ] فلهذا المقصود اختار لفظة الغيبة . 
وأما قوله : ( وآتينا عيسى ابن مريم البينات    ) فإنما اختار لفظ المخاطبة ، لأن الضمير في قوله : ( وآتينا ) ضمير التعظيم ، وتعظيم المؤتى يدل على عظمة الإيتاء . 
السؤال الثاني : لم خص موسى  وعيسى  من بين الأنبياء بالذكر  ؟ وهل يدل ذلك على أنهما أفضل من غيرهما ؟ 
والجواب : سبب التخصيص أن معجزاتهما أبر وأقوى من معجزات غيرهما وأيضا فأمتهما موجودون حاضرون في هذا الزمان وأمم سائر الأنبياء ليسوا موجودين ، فتخصيصهما بالذكر تنبيه على الطعن في أمتهما ، كأنه قيل : هذان الرسولان مع علو درجتهما وكثرة معجزاتهما لم يحصل الانقياد من أمتهما ، بل نازعوا وخالفوا ، وعن الواجب عليهم في طاعتهما أعرضوا . 
السؤال الثالث : تخصيص عيسى ابن مريم  بإيتاء البينات  ، يدل أو يوهم أن إيتاء البينات ما حصل في غيره ، ومعلوم أن ذلك غير جائز ، فإن قلت : إنما خصهما بالذكر لأن تلك البينات أقوى ؟ فنقول : إن بينات موسى  عليه السلام كانت أقوى من بينات عيسى  عليه السلام ، فإن لم تكن أقوى فلا أقل من المساواة . 
الجواب : المقصود منه التنبيه على قبح أفعال اليهود ، حيث أنكروا نبوة عيسى  عليه السلام مع ما ظهر على يديه من البينات اللائحة . 
السؤال الرابع : البينات جمع قلة ، وذلك لا يليق بهذا المقام . 
قلنا : لا نسلم أنه جمع قلة ، والله أعلم . 
				
						
						
