أما قوله تعالى : ( وسع كرسيه السماوات والأرض ) فاعلم أنه يقال : وسع فلانا الشيء يسعه سعة إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به ، ولا يسعك هذا ، أي لا تطيقه ولا تحتمله ، ومنه قوله عليه السلام : " موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي " أي : لا يحتمل غير ذلك ، وأما الكرسي فأصله في اللغة من تركب الشيء بعضه على بعض ، والكرس أبوال الدواب وأبعارها يتلبد بعضها فوق بعض ، وأكرست الدار إذا كثرت فيها الأبعار والأبوال وتلبد بعضها على بعض ، وتكارس الشيء إذا تركب ، ومنه الكراسة لتركب بعض أوراقها على بعض " والكرسي " هو هذا الشيء المعروف لتركب خشباته بعضها فوق بعض . لو كان
واختلف المفسرون على أربعة أقوال :
الأول : أنه جسم عظيم يسع السماوات والأرض ، ثم اختلفوا فيه فقال الحسن : " الكرسي " هو نفس العرش ، لأن السرير قد يوصف بأنه عرش ، وبأنه كرسي ، لكون كل واحد منهما بحيث يصح التمكن عليه ، وقال بعضهم : بل الكرسي غير العرش ، ثم اختلفوا فمنهم من قال : إنه دون العرش وفوق السماء السابعة ، وقال آخرون : إنه تحت الأرض وهو منقول عن السدي .
واعلم أن لفظ الكرسي ورد في الآية وجاء في الأخبار الصحيحة أنه جسم عظيم تحت العرش وفوق السماء السابعة ، ولا امتناع في القول به ، فوجب القول باتباعه ، وأما ما روي عن عن سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنهما أنه قال : موضع القدمين ، ومن البعيد أن يقول ابن عباس : هو موضع قدمي الله تعالى وتقدس عن الجوارح والأعضاء ، وقد ذكرنا الدلائل الكثيرة على نفي الجسمية في مواضع كثيرة من هذا الكتاب ، فوجب رد هذه الرواية أو حملها على أن المراد أن الكرسي موضع قدمي الروح الأعظم أو ملك آخر عظيم القدر عند الله تعالى . ابن عباس
القول الثاني : أن " السلطان والقدرة والملك ، ثم تارة يقال : الإلهية لا تحصل إلا بالقدرة والخلق والإيجاد ، والعرب يسمون أصل كل شيء " الكرسي " وتارة يسمى الملك بالكرسي ، لأن الملك يجلس على الكرسي ، فيسمى الملك باسم مكان الملك . المراد من " الكرسي
[ ص: 12 ] القول الثالث : أن " الكرسي " هو العلم ، لأن العلم موضع العالم وهو الكرسي ، فسميت صفة الشيء باسم مكان ذلك الشيء على سبيل المجاز ؛ لأن العلم هو الأمر المعتمد عليه ، والكرسي هو الشيء الذي يعتمد عليه ، ومنه يقال للعلماء : كراسي ، لأنهم الذين يعتمد عليهم كما يقال لهم : أوتاد الأرض .
والقول الرابع : ما اختاره القفال ، وهو أن المقصود من هذا الكلام تصوير ، وتقريره أنه تعالى خاطب الخلق في تعريف ذاته وصفاته بما اعتادوه في ملوكهم وعظمائهم ، من ذلك أنه جعل الكعبة بيتا له يطوف الناس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم ، وأمر الناس بزيارته كما يزور الناس بيوت ملوكهم ، وذكر في الحجر الأسود أنه يمين الله في أرضه ثم جعله موضعا للتقبيل كما يقبل الناس أيدي ملوكهم ، وكذلك ما ذكر في محاسبة العباد يوم القيامة من حضور الملائكة والنبيين والشهداء ووضع الموازين ، فعلى هذا القياس أثبت لنفسه عرشا ، فقال : ( عظمة الله وكبريائه الرحمن على العرش استوى ) [طه : 5] ثم فقال : ( وصف عرشه وكان عرشه على الماء ) [هود : 7] ثم قال : ( وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم ) [الزمر : 75] وقال : ( ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ) [الحاقة : 17] وقال : ( الذين يحملون العرش ومن حوله ) [غافر : 7] ثم أثبت لنفسه كرسيا فقال : ( وسع كرسيه السماوات والأرض ) .
إذا عرفت هذا فنقول : كل ما جاء من الألفاظ الموهمة للتشبيه في العرش والكرسي ، فقد ورد مثلها بل أقوى منها في الكعبة والطواف وتقبيل الحجر ، ولما توافقنا ههنا على أن المقصود تعريف عظمة الله وكبريائه مع القطع بأنه منزه عن الكعبة ، فكذا الكلام في العرش والكرسي ، وهذا جواب مبين إلا أن المعتمد هو الأول ، لأن ترك الظاهر بغير دليل لا يجوز ، والله أعلم .
أما قوله تعالى : ( ولا يئوده حفظهما ) فاعلم أنه يقال : آده يؤوده : إذا أثقله وأجهده ، وأدت العود أودا ، وذلك إذا اعتمدت عليه بالثقل حتى أملته ، والمعنى : لا يثقله ولا يشق عليه حفظهما أي : حفظ السماوات والأرض .
ثم قال : ( وهو العلي العظيم ) واعلم أنه لا يجوز أن يكون المراد منه العلو بالجهة ، وقد دللنا على ذلك بوجوه كثيرة ، ونزيد ههنا وجهين آخرين :
الأول : أنه لو كان علوه بسبب المكان ، لكان لا يخلو إما أن يكون متناهيا في جهة فوق ، أو غير متناه في تلك الجهة ، والأول باطل لأنه إذا كان متناهيا في جهة فوق ، كان الجزء المفروض فوقه أعلى منه ، فلا يكون هو أعلى من كل ما عداه ، بل يكون غيره أعلى منه ، وإن كان غير متناه فهذا محال ، لأن القول بإثبات بعد لا نهاية له باطل بالبراهين اليقينية ، وأيضا فإنا إذا قدرنا بعدا لا نهاية له ، لافترض في ذلك البعد نقط غير متناهية ، فلا يخلو إما أن يحصل في تلك النقط نقطة واحدة لا يفترض فوقها نقطة أخرى ، وإما أن لا يحصل ، فإن كان الأول كانت النقطة طرفا لذلك البعد ، فيكون ذلك البعد متناهيا ، وقد فرضناه غير متناه ، هذا خلف ، وإن لم يوجد فيها نقطة إلا وفوقها نقطة أخرى كان كل واحدة من تلك النقط المفترضة في ذلك البعد سفلا ، ولا يكون فيها ما يكون فوقا على الإطلاق ، فحينئذ لا يكون لشيء من النقطات المفترضة في ذلك البعد علو مطلق البتة ، وذلك ينفي صفة العلوية .
[ ص: 13 ] الحجة الثانية : أن العالم كرة ، ومتى كان الأمر كذلك فكل جانب يفرض علوا بالنسبة إلى أحد وجهي الأرض يكون سفلا بالنسبة إلى الوجه الثاني ، فينقلب غاية العلو غاية السفل .
الحجة الثالثة : أن كل وصف يكون ثبوته لأحد الأمرين بذاته ، وللآخر بتبعية الأول كان ذلك الحكم في الذاتي أتم وأكمل ، وفي العرضي أقل وأضعف ، فلو كان علو الله تعالى بسبب المكان لكان علو المكان الذي بسببه حصل هذا العلو لله تعالى صفة ذاتية ، ولكان حصول هذا العلو لله تعالى حصولا بتبعية حصوله في المكان ، فكان علو المكان أتم وأكمل من علو ذات الله تعالى ، فيكون علو الله ناقصا وعلو غيره كاملا ، وذلك محال ، فهذه الوجوه قاطعة في أن ، وما أحسن ما قال علو الله تعالى يمتنع أن يكون بالجهة أبو مسلم بن بحر الأصفهاني في تفسير قوله : ( قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله ) [الأنعام : 12] قال : وهذا يدل على أن المكان والمكانيات بأسرها ملك الله تعالى وملكوته ، ثم قال : ( وله ما سكن في الليل والنهار ) [الأنعام : 13] وهذا يدل على أن الزمان والزمانيات بأسرها ملك الله تعالى وملكوته ، فتعالى وتقدس عن أن يكون علوه بسبب المكان ، وأما عظمته فهي أيضا بالمهابة والقهر والكبرياء ، ويمتنع أن تكون بسبب المقدار والحجم ؛ لأنه إن كان غير متناه في كل الجهات أو في بعض الجهات فهو محال لما ثبت بالبراهين القاطعة عدم إثبات أبعاد غير متناهية ، وإن كان متناهيا من كل الجهات كانت الأحياز المحيطة بذلك المتناهي أعظم منه ، فلا يكون مثل هذا الشيء عظيما على الإطلاق ، فالحق تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا . أنه سبحانه وتعالى أعلى وأعظم من أن يكون من جنس الجواهر والأجسام