أما قوله تعالى : ( فصرهن إليك    ) ففيه مسائل : 
المسألة الأولى : قرأ حمزة    " فصرهن إليك " بكسر الصاد ، والباقون بضم الصاد ، أما الضم ففيه قولان : 
الأول : أنه من صرت الشيء أصوره إذا أملته إليه ، ورجل أصور أي مائل العنق ، ويقال : صار فلان إلى كذا إذا قال به ومال إليه ، وعلى هذا التفسير يحصل في الكلام محذوف ، كأنه قيل : أملهن إليك وقطعهن ، ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ، فحذف الجملة التي هي قطعهن لدلالة الكلام عليه كقوله : ( أن اضرب بعصاك    )   [ ص: 37 ]   ( البحر فانفلق    ) [الشعراء : 63] على معنى : فضرب فانفلق لأن قوله : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا    ) يدل على التقطيع . 
فإن قيل : ما الفائدة في أمره بضمها إلى نفسه بعد أن يأخذها ؟ . 
قلنا : الفائدة أن يتأمل فيها ويعرف أشكالها وهيآتها لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ، ولا يتوهم أنها غير تلك . 
والقول الثاني : وهو قول  ابن عباس   وسعيد بن جبير  والحسن   ومجاهد    ( فصرهن إليك    ) معناه قطعهن ، يقال : صار الشيء يصوره صورا ، إذا قطعه ، قال رؤبة يصف خصما ألد : صرناه بالحكم ، أي قطعناه ، وعلى هذا القول لا يحتاج إلى الإضمار ، وأما قراءة حمزة  بكسر الصاد ، فقد فسر هذه الكلمة أيضا تارة بالإمالة ، وأخرى بالتقطيع ، أما الإمالة فقال الفراء    : هذه لغة هذيل  وسليم    : صاره يصيره إذا أماته ، وقال الأخفش  وغيره : " صرهن " بكسر الصاد : قطعهن . يقال : صاره يصيره إذا قطعه ، قال الفراء    : أظن أن ذلك مقلوب من صرى يصري إذا قطع ، فقدمت ياؤها ، كما قالوا : عثا وعاث ، قال  المبرد    : وهذا لا يصح ، لأن كل واحد من هذين اللفظين أصل في نفسه مستقل بذاته ، فلا يجوز جعل أحدهما فرعا عن الآخر . 
المسألة الثانية : أجمع أهل التفسير على أن المراد بالآية : قطعهن ، وأن إبراهيم  قطع أعضاءها ولحومها وريشها ودماءها ، وخلط بعضها على بعض ، غير أبي مسلم  فإنه أنكر ذلك ، وقال : إن إبراهيم  عليه السلام لما طلب إحياء الميت من الله تعالى  أراه الله تعالى مثالا قرب به الأمر عليه ، والمراد بصرهن إليك الإمالة والتمرين على الإجابة ، أي : فعود الطيور الأربعة أن تصير بحيث إذا دعوتها أجابتك وأتتك ، فإذا صارت كذلك ، فاجعل على كل جبل واحدا حال حياته ، ثم ادعهن يأتينك سعيا ، والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة    . وأنكر القول بأن المراد منه : فقطعهن ، واحتج عليه بوجوه : 
الأول : أن المشهور في اللغة في قوله : ( فصرهن    ) أملهن ، وأما التقطيع والذبح فليس في الآية ما يدل عليه ، فكان إدراجه في الآية إلحاقا لزيادة بالآية لم يدل الدليل عليها وأنه لا يجوز . 
والثاني : أنه لو كان المراد بصرهن قطعهن لم يقل إليك ، فإن ذلك لا يتعدى بإلى وإنما يتعدى بهذا الحرف إذا كان بمعنى الإمالة . 
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : فخذ إليك أربعة من الطير فصرهن ؟ . 
قلنا : التزام التقديم والتأخير من غير دليل ملجئ إلى التزامه خلاف الظاهر . 
والثالث : أن الضمير في قوله : ( ثم ادعهن    ) عائد إليها لا إلى أجزائها ، وإذا كانت الأجزاء متفرقة متفاصلة وكان الموضوع على كل جبل بعض تلك الأجزاء يلزم أن يكون الضمير عائدا إلى تلك الأجزاء لا إليها ، وهو خلاف الظاهر ، وأيضا الضمير في قوله : ( يأتينك سعيا    ) عائد إليها لا إلى أجزائها ، وعلى قولكم إذا سعى بعض الأجزاء إلى بعض كان الضمير في ( يأتينك    ) عائدا إلى أجزائها لا إليها . واحتج القائلون بالقول المشهور بوجوه : 
الأول : أن كل المفسرين الذين كانوا قبل أبي مسلم  أجمعوا على أنه حصل ذبح تلك الطيور وتقطيع أجزائها ، فيكون إنكار ذلك إنكارا للإجماع . 
والثاني : أن ما ذكره غير مختص بإبراهيم  صلى الله عليه وسلم ، فلا يكون له فيه مزية على الغير . 
والثالث : أن إبراهيم  أراد أن يريه الله كيف يحيي الموتى ، وظاهر الآية يدل على أنه أجيب إلى ذلك ، وعلى قول أبي مسلم  لا تحصل الإجابة في الحقيقة . 
والرابع : أن قوله : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا    ) يدل   [ ص: 38 ] على أن تلك الطيور جعلت جزءا جزءا ، قال أبو مسلم  في الجواب عن هذا الوجه : أنه أضاف الجزء إلى الأربعة فيجب أن يكون المراد بالجزء هو الواحد من تلك الأربعة . 
والجواب : أن ما ذكرته وإن كان محتملا إلا أن حمل الجزء على ما ذكرناه أظهر ، والتقدير : فاجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءا أو بعضا . 
				
						
						
