( يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب    ) 
قوله تعالى : ( يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب    ) . 
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة أن الشيطان يعد الفقر ويأمر بالفحشاء ، وأن الرحمن يعد بالمغفرة والفضل ، نبه على أن الأمر الذي لأجله وجب ترجيح وعد الرحمن على وعد الشيطان هو أن وعد الرحمن ترجحه الحكمة والعقل ، ووعد الشيطان ترجحه الشهوة والنفس من حيث إنهما يأمران بتحصيل اللذة الحاضرة واتباع أحكام الخيال والوهم ، ولا شك أن حكم الحكمة والعقل  هو الحكم الصادق المبرأ عن الزيغ والخلل ، وحكم الحس والشهوة والنفس  توقع الإنسان في البلاء والمحنة ، فكان حكم الحكمة والعقل أولى بالقبول ، فهذا هو الإشارة إلى وجه النظم . بقي في الآية مسائل : 
المسألة الأولى : المراد من الحكمة إما العلم وإما فعل الصواب ؛ يروى عن مقاتل  أنه قال : تفسير الحكمة في القرآن  على أربعة أوجه : 
أحدها : مواعظ القرآن ، قال في البقرة : ( وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به    ) [البقرة : 231] يعني مواعظ القرآن ، وفي النساء : ( وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة    ) [النساء : 113] يعني المواعظ ، ومثلها في آل عمران . 
وثانيها : الحكمة بمعنى الفهم والعلم ، ومنه قوله تعالى : ( وآتيناه الحكم صبيا    ) [مريم : 12] وفي لقمان : ( ولقد آتينا لقمان الحكمة    ) [لقمان : 12] يعني الفهم والعلم ، وفي الأنعام : ( أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم    ) [الأنعام : 89] يعني النبوة ، وفي ص : ( وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب    ) [ص : 20] يعني النبوة ، وفي البقرة : ( وآتاه الله الملك والحكمة    ) [البقرة : 251] . 
ورابعها : القرآن بما فيه من عجائب الأسرار في النحل : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة    ) [النحل : 125] . 
وفي هذه الآية : ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا    ) وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم . ثم تأمل أيها المسكين فإنه تعالى ما أعطى إلا القليل من العلم ، قال تعالى : ( وما أوتيتم من العلم    )   [ ص: 60 ]   ( إلا قليلا    ) [الإسراء : 85] وسمى الدنيا بأسرها قليلا ، فقال : ( قل متاع الدنيا قليل    ) [النساء : 77] وانظر كم مقدار هذا القليل حتى تعرف عظمة ذلك الكثير ، والبرهان العقلي أيضا يطابقه ؛ لأن الدنيا متناهية المقدار ، متناهية المدة ، والعلوم لا نهاية لمراتبها وعددها ومدة بقائها ، والسعادة الحاصلة منها ، وذلك ينبئك على فضيلة العلم ، والاستقصاء في هذا الباب قد مر في تفسير قوله تعالى : ( وعلم آدم الأسماء كلها    ) [البقرة : 31] . 
وأما الحكمة بمعنى فعل الصواب  فقيل في حدها : إنها التخلق بأخلاق الله بقدر الطاقة البشرية ، ومدار هذا المعنى على قوله صلى الله عليه وسلم : " تخلقوا بأخلاق الله تعالى   " . واعلم أن الحكمة لا يمكن خروجها عن هذين المعنيين ، وذلك لأن كمال الإنسان في شيئين : أن يعرف الحق لذاته ، والخير لأجل العمل به ، فالمرجع بالأول إلى العلم والإدراك المطابق ، وبالثاني إلى فعل العدل والصواب ، فحكي عن إبراهيم  صلى الله عليه وسلم قوله : ( رب هب لي حكما    ) [الشعراء : 83] وهو الحكمة النظرية ( وألحقني بالصالحين    ) [الشعراء : 83] الحكمة العملية ، ونادى موسى  عليه السلام فقال : ( إنني أنا الله لا إله إلا أنا    ) [طه : 14] وهو الحكمة النظرية ، ثم قال : ( فاعبدني    ) [طه : 14] وهو الحكمة العملية ، وقال عن عيسى  عليه السلام أنه قال : ( إني عبد الله    ) [مريم : 30] الآية ، وكل ذلك للحكمة النظرية ، ثم قال : ( وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا    ) [مريم : 31] وهو الحكمة العملية ، وقال في حق محمد  صلى الله عليه وسلم : ( فاعلم أنه لا إله إلا الله    ) [محمد : 19] وهو الحكمة النظرية ، ثم قال : ( واستغفر لذنبك    ) [محمد : 19] وهو الحكمة العملية ، وقال في جميع الأنبياء : ( ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا    ) [النحل : 2] وهو الحكمة النظرية ، ثم قال : ( فاتقون    ) [النحل : 2] وهو الحكمة العملية ، والقرآن هو من الآية الدالة على أن كمال حال الإنسان ليس إلا في هاتين القوتين ، قال أبو مسلم    : الحكمة فعلة من الحكم ، وهي كالنحلة من النحل ، ورجل حكيم إذا كان ذا حجى ولب وإصابة رأي ، وهو في هذا الموضع في معنى الفاعل ، ويقال : أمر حكيم ، أي : محكم ، وهو فعيل بمعنى مفعول ، قال الله تعالى : ( فيها يفرق كل أمر حكيم    ) [الدخان : 4] وهذا الذي قاله أبو مسلم  من اشتقاق اللغة يطابق ما ذكرناه من المعنى . 
المسألة الثانية : قال صاحب الكشاف : قرئ " ومن يؤتي الحكمة " بمعنى : ومن يؤته الله الحكمة ، وهكذا قرأ  الأعمش    . 
المسألة الثالثة : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى  وذلك لأن الحكمة إن فسرناها بالعلم لم تكن مفسرة بالعلوم الضرورية ، لأنها حاصلة للبهائم والمجانين والأطفال ، وهذه الأشياء لا توصف بأنها حكم ، فهي مفسرة بالعلوم النظرية ، وإن فسرناها بالأفعال الحسية فالأمر ظاهر ، وعلى التقديرين فيلزم أن يكون حصول العلوم النظرية والأفعال الحسية ثابتا من غيرهم ، وبتقدير مقدر من غيرهم ، وذلك الغير ليس إلا الله تعالى بالاتفاق ، فدل على أن فعل العبد خلق لله تعالى . 
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من الحكمة النبوة والقرآن ، أو قوة الفهم والحسية على ما هو قول الربيع بن أنس  ؟ . 
قلنا : الدليل الذي ذكرناه يدفع هذه الاحتمالات ، وذلك لأنه بالنقل المتواتر ثبت أنه يستعمل لفظ الحكيم في غير الأنبياء ، فتكون الحكمة مغايرة للنبوة والقرآن ، بل هي مفسرة إما بمعرفة حقائق الأشياء ، أو   [ ص: 61 ] بالإقدام على الأفعال الحسنة الصائبة ، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل ، فإن حاولت المعتزلة  حمل الإيتاء على التوفيق والإعانة والألطاف ، قلنا : كل ما فعله من هذا الجنس في حق المؤمنين فقد فعل مثله في حق الكفار ، مع أن هذا المدح العظيم المذكور في هذه الآية لا يتناولهم ، فعلمنا أن الحكمة المذكورة في هذه الآية شيء آخر سوى فعل الألطاف ، والله أعلم . 
ثم قال : ( وما يذكر إلا أولو الألباب    ) والمراد به عندي والله أعلم أن الإنسان إذا رأى الحكم والمعارف حاصلة في قلبه ، ثم تأمل وتدبر وعرف أنها لم تحصل إلا بإيتاء الله تعالى وتيسيره ، كان من أولي الألباب ؛ لأنه لم يقف عند المسببات ، بل ترقى منها إلى أسبابها ، فهذا الانتقال من المسبب إلى السبب هو التذكر الذي لا يحصل إلا لأولي الألباب ، وأما من أضاف هذه الأحوال إلى نفسه ، واعتقد أنه هو السبب في حصولها وتحصيلها ، كان من الظاهريين الذين عجزوا عن الانتقال من المسببات إلى الأسباب . وأما المعتزلة  فإنهم لما فسروا الحكمة بقوة الفهم ووضع الدلائل ، قالوا : هذه الحكمة لا تقوم بنفسها ، وإنما ينتفع بها المرء بأن يتدبر ويتفكر ، فيعرف ما له وما عليه ، وعند ذلك يقدم أو يحجم . 
				
						
						
