المسألة الثالثة : احتج أبو القاسم الكعبي  بهذه الآية على القطع بوعيد أصحاب الكبائر ، فقال : قد كشف الله بهذه الآية الشبهة في الوعيد ؛ لأنه تعالى بعد أن قدم ذكر الكبائر ، بين أن من اجتنبها يكفر عنه سيئاته ، وهذا يدل على أنهم إذا لم يجتنبوها فلا تكفر ، ولو جاز أن يغفر تعالى لهم الكبائر والصغائر من غير توبة لم يصح هذا الكلام . 
وأجاب أصحابنا عنه من وجوه : 
الأول : إنكم إما أن تستدلوا بهذه الآية من حيث إنه تعالى لما ذكر أن عند اجتناب الكبائر يكفر السيئات  ، وجب أن عند عدم اجتناب الكبائر لا يكفرها ؛ لأن تخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه ، وهذا باطل ؛ لأن عند المعتزلة  هذا الأصل باطل ، وعندنا أنه دلالة ظنية ضعيفة ، وإما أن تستدلوا به من حيث أن المعلق بكلمة " إن " على الشيء عدم عند عدم ذلك الشيء ، وهذا أيضا ضعيف ، ويدل عليه آيات : 
إحداها : قوله : ( واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون    ) [ البقرة : 172 ] فالشكر واجب سواء عبد الله أو لم يعبد . 
وثانيها : قوله تعالى : ( فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته    ) [ البقرة : 283 ] وأداء الأمانة واجب سواء ائتمنه أو لم يفعل ذلك . 
وثالثها : ( فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان    ) [ البقرة : 282 ] والاستشهاد بالرجل والمرأتين جائز سواء حصل الرجلان أو لم يحصلا . 
ورابعها : ( ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة    ) [ البقرة : 283 ] والرهن مشروع سواء وجد الكاتب أو لم يوجد . 
وخامسها : ( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا    ) [ النور : 33 ] والإكراه على البغاء محرم ، سواء أردن التحصن أو لم يردن . 
وسادسها : ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء    ) [ النساء : 3 ] والنكاح جائز سواء حصل ذلك الخوف أو لم يحصل . 
وسابعها : ( فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم    ) [ النساء : 101 ] والقصر جائز ، سواء حصل الخوف أو لم يحصل . 
وثامنها : ( فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك    ) [ النساء : 11 ] والثلثان كما أنه حق الثلاثة فهو أيضا حق الثنتين . 
وتاسعها : قوله : ( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله    ) ( النساء : 35 ] وذلك جائز سواء حصل الخوف أو لم يحصل . 
وعاشرها : قوله : ( إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما    ) [ النساء : 35 ] وقد يحصل التوفيق بدون إرادتهما . 
والحادي عشر : قوله : ( وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته    ) [ النساء : 130 ] وقد يحصل الغنى بدون ذلك التفرق ، وهذا الجنس من الآيات فيه كثرة ، فثبت أن المعلق بكلمة " إن " على الشيء لا يلزم أن يكون عدما عند عدم ذلك الشيء ، والعجب أن مذهب  القاضي عبد الجبار  في أصول الفقه هو أن المعلق بكلمة " إن " على الشيء لا يكون عدما عند عدم ذلك الشيء ، ثم إنه في التفسير استحسن استدلال الكعبي  بهذه الآية ، وذلك يدل على أن حب الإنسان لمذهبه قد يلقيه فيما لا ينبغي . 
الوجه الثاني من الجواب : قال أبو مسلم الأصفهاني    : إن هذه الآية إنما جاءت عقيب الآية التي نهى الله فيها عن نكاح المحرمات ، وعن عضل النساء وأخذ أموال اليتامى وغير ذلك ، فقال تعالى : إن تجتنبوا هذه الكبائر التي نهيناكم عنها كفرنا عنكم ما كان منكم في ارتكابها سالفا . وإذا كان هذا الوجه محتملا ، لم يتعين حمله على ما ذكره المعتزلة    . وطعن القاضي في هذا الوجه من وجهين : الأول : أن قوله : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه    ) عام ، فقصره على المذكور المتقدم لا يجوز . 
الثاني : أن قوله : إن باجتنابهم في المستقبل هذه المحرمات يكفر الله ما حصل منها في الماضي كلام بعيد ؛ لأنه لا يخلو حالهم من أمرين اثنين : إما أن يكونوا قد تابوا من كل ما تقدم ، فالتوبة قد أزالت عقاب ذلك لاجتناب هذه الكبائر ، أو لا يكونوا   [ ص: 64 ] قد تابوا من كل ما تقدم ، فمن أين أن اجتناب هذه الكبائر يوجب تكفير تلك السيئات ؟ هذا لفظ القاضي في تفسيره . 
والجواب عن الأول : أنا لا ندعي القطع بأن قوله : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه    ) محمول على ما تقدم ذكره ، لكنا نقول : إنه محتمل ، ومع هذا الاحتمال لا يتعين حمل الآية على ما ذكروه . 
وعن الثاني : أن قولك : من أين أن اجتناب هذه الكبائر يوجب تكفير تلك السيئات ؟ سؤال لا استدلال على فساد هذا القسم ، وبهذا القدر لا يبطل هذا الاحتمال ، وإذا حضر هذا الاحتمال بطل ما ذكرتم من الاستدلال ، والله أعلم . 
الوجه الثالث : من الجواب عن هذا الاستدلال : هو أنا إذا أعطيناهم جميع مراداتهم لم يكن في الآية زيادة على أن نقول : إن من لم يجتنب الكبائر لم تكفر سيئاته ، وحينئذ تصير هذه الآية عامة في الوعيد ، وعمومات الوعيد ليست قليلة ، فما ذكرناه جوابا عن سائر العمومات كان جوابا عن تمسكهم بهذه الآية ، فلا أعرف لهذه الآية مزيد خاصية في هذا الباب ، وإذا كان كذلك لم يبق لقول الكعبي  إن الله قد كشف الشبهة بهذه الآية عن هذه المسألة وجه . 
الوجه الرابع : أن هذه الكبائر قد يكون فيها ما يكون كبيرا ، بالنسبة إلى شيء ، ويكون صغيرا بالنسبة إلى شيء آخر ، وكذا القول في الصغائر ، إلا أن الذي يحكم بكونه كبيرا على الإطلاق  هو الكفر ، وإذا ثبت هذا فلم لا يجوز أن يكون المراد بقوله : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه    ) الكفر ؟ وذلك لأن الكفر أنواع  كثيرة : منها الكفر بالله ، وبأنبيائه ، وباليوم الآخر وشرائعه ، فكان المراد أن من اجتنب عن الكفر كان ما وراءه مغفورا ، وهذا الاحتمال منطبق موافق لصريح قوله تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء    ) [ النساء : 48 ] وإذا كان هذا محتملا بل ظاهرا ، سقط استدلالهم بالكلية ، وبالله التوفيق . 
المسألة الرابعة : قالت المعتزلة    : إن عند اجتناب الكبائر يجب غفران الصغائر ، وعندنا أنه لا يجب عليه شيء ، بل كل ما يفعله فهو فضل وإحسان ، وقد تقدم ذكر دلائل هذه المسألة . 
				
						
						
