( أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا )
قوله تعالى : ( أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا )
اعلم أنه تعالى وصف اليهود في الآية المتقدمة بالجهل الشديد ، وهو اعتقادهم أن عبادة الأوثان أفضل من عبادة الله تعالى ، ووصفهم في هذه الآية بالبخل والحسد ، فالبخل هو أن لا يدفع لأحد شيئا مما آتاه الله من النعمة ، والحسد هو أن يتمنى أن لا يعطي الله غيره شيئا من النعم ، فالبخل والحسد يشتركان في أن صاحبه يريد منع النعمة من الغير ، فأما ، وأما البخيل فيمنع نعمة نفسه عن الغير ، وإنما قدم تلك الآية على هذه الآية ؛ لأن الحاسد فيريد أن يمنع نعمة الله من عباده : القوة العالمة والقوة العاملة ، فكمال القوة العالمة العلم ، ونقصانها الجهل ، وكمال القوة العاملة الأخلاق الحميدة ، ونقصانها الأخلاق الذميمة ، وأشد الأخلاق الذميمة نقصانا البخل والحسد ؛ لأنهما منشآن لعود المضار إلى عباد الله . النفس الإنسانية لها قوتان
إذا عرفت هذا فنقول : إنما قدم وصفهم بالجهل على وصفهم بالبخل والحسد لوجهين :
الأول : أن القوة النظرية مقدمة على القوة العملية في الشرف والرتبة وأصل لها ، فكان شرح حالها يجب أن يكون مقدما على شرح حال القوة العملية .
الثاني : أن ، والسبب مقدم على المسبب ، لا جرم قدم تعالى ذكر الجهل على ذكر البخل والحسد . وإنما قلنا إن الجهل سبب البخل والحسد ؛ أما البخل فلأن بذل المال سبب لطهارة النفس ولحصول السعادة في الآخرة ، وحبس المال سبب لحصول مال الدنيا في يده ، السبب لحصول البخل والحسد هو الجهل ، فالبخل يدعوك إلى الدنيا ويمنعك عن الآخرة ، ولا شك أن والجود يدعوك إلى الآخرة ويمنعك عن الدنيا . وأما الحسد فلأن الإلهية عبارة عن إيصال النعم والإحسان إلى العبيد ، فمن كره ذلك فكأنه أراد عزل الإله عن الإلهية ، وذلك [ ص: 105 ] محض الجهل . فثبت أن السبب الأصلي للبخل والحسد هو الجهل ، فلما ذكر تعالى الجهل أردفه بذكر البخل والحسد ؛ ليكون المسبب مذكورا عقيب السبب ، فهذا هو الإشارة إلى نظم هذه الآية ، وههنا مسائل : ترجيح الدنيا على الآخرة لا يكون إلا من محض الجهل
المسألة الأولى : " أم " ههنا فيه وجوه :
الأول : قال بعضهم : الميم صلة ، وتقديره : ألهم ؛ لأن حرف " أم " إذا لم يسبقه استفهام كان الميم فيه صلة .
الثاني : أن " أم " ههنا متصلة ، وقد سبق ههنا استفهام على سبيل المعنى ، وذلك لأنه تعالى لما حكى عن هؤلاء الملعونين ، عطف عليه بقوله : ( قولهم للمشركين : إنهم أهدى سبيلا من المؤمنين أم لهم نصيب ) فكأنه تعالى قال : أمن ذلك يتعجب ، أم من قولهم : لهم نصيب من الملك ، مع أنه لو كان لهم ملك لبخلوا بأقل القليل .
الثالث : أن " أم " ههنا منقطعة وغير متصلة بما قبلها البتة ، كأنه لما تم الكلام الأول قال : بل لهم نصيب من الملك ، وهذا الاستفهام استفهام بمعنى الإنكار ، يعني ليس لهم شيء من الملك البتة ، وهذا الوجه أصح الوجوه .
المسألة الثانية : ذكروا في هذا الملك وجوها :
الأول : اليهود كانوا يقولون : نحن أولى بالملك والنبوة فكيف نتبع العرب ؟ فأبطل الله عليهم قولهم في هذه الآية .
الثاني : أن اليهود كانوا يزعمون أن الملك يعود إليهم في آخر الزمان ، وذلك أنه يخرج من اليهود من يجدد ملكهم ودولتهم ويدعو إلى دينهم ، فكذبهم الله في هذه الآية .
الثالث : المراد بالملك ههنا التمليك ، يعني أنهم إنما يقدرون على دفع نبوتك لو كان التمليك إليهم ، ولو كان التمليك إليهم لبخلوا بالنقير والقطمير ، فكيف يقدرون على النفي والإثبات . قال أبو بكر الأصم : كانوا أصحاب بساتين وأموال ، وكانوا في عزة ومنعة ، ثم كانوا يبخلون على الفقراء بأقل القليل ، فنزلت هذه الآية .
المسألة الثالثة : أنه تعالى جعل بخلهم كالمانع من حصول الملك لهم ، وهذا يدل على أن الملك والبخل لا يجتمعان ، وتحقيق الكلام فيه من حيث العقل أن الانقياد للغير أمر مكروه لذاته ، والإنسان لا يتحمل المكروه إلا إذا وجد في مقابلته أمرا مطلوبا مرغوبا فيه ، وجهات الحاجات محيطة بالناس ، فإذا صدر من إنسان إحسان إلى غيره صارت رغبة المحسن إليه في ذلك المال سببا لصيرورته منقادا مطيعا له ؛ فلهذا قيل : ، فإذا لم يوجد هذا بقيت النفرة الطبيعية عن الانقياد للغير خالصا عن المعارض ، فلا يحصل الانقياد البتة ، فثبت أن بالبر يستعبد الحر ، ثم إن الملك والبخل لا يجتمعان : ملك على الظواهر فقط ، وهذا هو ملك الملوك ، وملك على البواطن فقط ، وهذا هو ملك العلماء ، وملك على الظواهر والبواطن معا ، وهذا هو ملك الأنبياء صلوات الله عليهم . فإذا كان الجود من لوازم الملك وجب في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يكونوا في غاية الجود والكرم والرحمة والشفقة ، ليصير كل واحد من هذه الأخلاق سببا لانقياد الخلق لهم ، وامتثالهم لأوامرهم . وكمال هذه الصفات حاصل الملك على ثلاثة أقسام لمحمد - عليه الصلاة والسلام - .
المسألة الرابعة : قال : سيبويه ، وتقريره أن الظن إذا وقع في أول الكلام نصب لا غير ، كقولك : أظن زيدا قائما . وإن وقع في الوسط جاز إلغاؤه وإعماله ، كقوله : زيد أظن قائم ، وإن شئت قلت : زيدا أظن قائما ، وإن تأخر فالأحسن إلغاؤه ، تقول : زيد منطلق ظننت ، والسبب فيما ذكرناه أن " ظن " ، وما أشبهه من الأفعال نحو علم وحسب ضعيفة في العمل ؛ لأنها لا تؤثر [ ص: 106 ] في معمولاتها ، فإذا تقدم دل التقديم في الذكر على شدة العناية ، فقوي على التأثير ، وإذا تأخر دل على عدم العناية فلغا ، وإن توسط فحينئذ لا يكون في محل العناية من كل الوجوه ، ولا في محل الإهمال من كل الوجوه ، بل كانت كالمتوسطة في هاتين الحالتين ، فلا جرم كان الإعمال والإلغاء جائزا . " إذن " في عوامل الأفعال بمنزلة " أظن " في عوامل الأسماء
واعلم أن الإعمال في حال التوسط أحسن ، والإلغاء حال التأخر أحسن .
إذا عرفت هذا فنقول : كلمة " إذن " على هذا الترتيب أيضا ، فإن تقدمت نصبت الفعل ، تقول : إذن أكرمك ، وإن توسطت أو تأخرت جاز الإلغاء ، تقول : أنا إذن أكرمك ، وأنا أكرمك إذن ، فتلغيه في هاتين الحالتين .
إذا عرفت هذه المقدمة فقوله تعالى : ( فإذا لا يؤتون الناس نقيرا ) كلمة " إذن " فيها متقدمة وما عملت ، فذكروا في العذر وجوها :
الأول : أن في الكلام تقديما وتأخيرا ، والتقدير : لا يؤتون الناس نقيرا إذن .
الثاني : أنها لما وقعت بين الفاء والفعل جاز أن تقدر متوسطة ، فتلغى كما تلغى إذا توسطت أو تأخرت ، وهكذا سبيلها مع الواو ، كقوله تعالى : ( وإذا لا يلبثون خلافك ) [ الإسراء : 76 ] .
والثالث : قرأ ابن مسعود " فإذا لا يؤتوا " على إعمال " إذن " عملها الذي هو النصب .
المسألة الخامسة : قال أهل اللغة : النقير نقرة في ظهر النواة ، ومنها تنبت النخلة ، وأصله أنه فعيل من النقر ، ويقال للخشب الذي ينقر فيه : نقير ؛ لأنه ينقر ، والنقر : ضرب الحجر وغيره بالمنقار ، والمنقار حديدة كالفأس تقطع بها الحجارة ، والغرض أنهم يبخلون بأقل القليل .