( ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ) .
قال الله تعالى : ( ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ) .
أي ويقولون إذا أمرتهم بشيء ( طاعة ) بالرفع ، أي أمرنا وشأننا طاعة ، ويجوز النصب بمعنى أطعناك طاعة ، وهذا كما إذا قال الرجل المطيع المنقاد : سمعا وطاعة ، وسمع وطاعة . قال : سمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقال لهم كيف أصبحت ؟ فيقول : حمد الله وثناء عليه ، كأنه قال : أمري وشأني حمد الله . سيبويه
واعلم أن النصب يدل على مجرد الفعل . وأما الرفع فإنه يدل على ثبات الطاعة واستقرارها ( فإذا برزوا من عندك ) أي خرجوا من عندك ( بيت طائفة منهم غير الذي تقول ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الزجاج : كل أمر تفكروا فيه كثيرا وتأملوا في مصالحه ومفاسده كثيرا قيل هذا أمر مبيت ، قال تعالى : ( إذ يبيتون ما لا يرضى من القول ) [ النساء : 108 ] وفي اشتقاقه وجهان :
الأول : اشتقاقه من البيتوتة ، لأن أن يجلس الإنسان في بيته بالليل ، فهناك تكون الخواطر أخلى والشواغل أقل ، فلما كان الغالب أن الإنسان وقت الليل يكون في البيت ، والغالب له أنه إنما يستقصي في الأفكار في الليل ، لا جرم سمي الفكر المستقصى مبيتا . أصلح الأوقات للفكر
الثاني : اشتقاقه من بيت الشعر . قال الأخفش : العرب إذا أرادوا قرض الشعر بالغوا في التفكر فيه فسموا المتفكر فيه المستقصى مبيتا ، تشبيها له ببيت الشعر من حيث إنه يسوى ويدبر .
[ ص: 156 ] المسألة الثانية : أنه تعالى خص طائفة من جملة المنافقين بالتبييت ، وفي هذا التخصيص وجهان :
أحدهما : أنه تعالى ذكر من علم أنه يبقى على كفره ونفاقه ، فأما من علم أنه يرجع عن ذلك فإنه لم يذكرهم .
والثاني : أن هذه الطائفة كانوا قد أسهروا ليلهم في التبييت ، وغيرهم سمعوا وسكتوا ولم يبيتوا ، فلا جرم لم يذكروا .
المسألة الثالثة : قرأ أبو عمرو وحمزة ( بيت طائفة ) بإدغام التاء في الطاء ، والباقون بالإظهار أما من أدغم فله فيه وجهان :
الأول : قال الفراء : جزموا لكثرة الحركات ، فلما سكنت التاء أدغمت في الطاء .
والثاني : أن الطاء والدال والتاء من حيز واحد ، فالتقارب الذي بينها يجريها مجرى الأمثال في الإدغام ، ومما يحسن هذا الإدغام أن الطاء تزيد على التاء بالإطباق ، فحسن إدغام الأنقص صوتا في الأزيد صوتا . أما من لم يدغم فعلته أنهما حرفان من مخرجين في كلمتين متفاصلتين ، فوجب إبقاء كل واحد منهما بحاله .
المسألة الرابعة : قال : ( بيت ) بالتذكير ولم يقل : بيتت بالتأنيث ، لأن تأنيث الطائفة غير حقيقي ، ولأنها في معنى الفريق والفوج . قال صاحب " الكشاف " : ( بيت طائفة ) أي زورت وزينت خلاف ما قالت وما أمرت به ، أو خلاف ما قالت وما ضمنت من الطاعة ، لأنهم أبطنوا الرد لا القبول ، والعصيان لا الطاعة .
ثم قال تعالى : ( والله يكتب ما يبيتون ) ذكر الزجاج فيه وجهين :
أحدهما : أن معناه ينزل إليك في كتابه .
والثاني : يكتب ذلك في صحائف أعمالهم ليجازوا به .
ثم قال تعالى : ( فأعرض عنهم ) والمعنى لا تهتك سترهم ولا تفضحهم ولا تذكرهم بأسمائهم ، وإنما أمر الله بستر أمر المنافقين إلى أن يستقيم أمر الإسلام . ثم قال : ( وتوكل على الله ) في شأنهم ، فإن الله يكفيك شرهم وينتقم منهم ( وكفى بالله وكيلا ) لمن توكل عليه . قال المفسرون : كان الأمر بالإعراض عن المنافقين في ابتداء الإسلام ، ثم نسخ ذلك بقوله : ( جاهد الكفار والمنافقين ) [ التوبة : 73 ] وهذا الكلام فيه نظر ، لأن الأمر بالصفح مطلق فلا يفيد إلا المرة الواحدة ، فورود الأمر بعد ذلك بالجهاد لا يكون ناسخا له .