ثم قال تعالى : ( فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم ) وفيه سؤال ، وهو أن القوم لما كانوا عاجزين عن الهجرة ، والعاجز عن الشيء غير مكلف به ، وإذا لم يكن مكلفا به لم يكن عليه في تركه عقوبة ، فلم قال : ( عسى الله أن يعفو عنهم ) والعفو لا يتصور إلا مع الذنب ، وأيضا " عسى " كلمة الإطماع ، وهذا يقتضي عدم القطع بحصول العفو في حقهم ؟ .
والجواب عن الأول : أن المستضعف قد يكون قادرا على ذلك الشيء مع ضرب من المشقة ، وتمييز الضعف الذي يحصل عنده الرخصة عن الحد الذي لا يحصل عنده الرخصة شاق ومشتبه ، فربما ظن الإنسان بنفسه أنه عاجز عن المهاجرة ولا يكون كذلك ، ولا سيما في الهجرة عن الوطن فإنها شاقة على النفس ، وبسبب شدة النفرة قد يظن الإنسان كونه عاجزا مع أنه لا يكون كذلك ، فلهذا المعنى كانت الحاجة إلى العفو شديدة في هذا المقام .
وأما السؤال الثاني : وهو قوله : ما الفائدة في ذكر لفظة " عسى " ههنا ؟ فنقول : الفائدة فيها الدلالة على أن أمر مضيق لا توسعة فيه ، حتى أن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول : عسى الله أن يعفو عني ، فكيف الحال في غيره . هذا هو الذي ذكره صاحب "الكشاف" في الجواب عن هذا السؤال ، إلا أن الأولى أن يكون الجواب ما قدمناه ، وهو أن الإنسان لشدة نفرته عن مفارقة الوطن ربما ظن نفسه عاجزا عنها مع أنه لا يكون كذلك في الحقيقة ، فلهذا المعنى ذكر العفو بكلمة " عسى " لا بالكلمة الدالة على القطع . ترك الهجرة
ثم قال تعالى : ( وكان الله عفوا غفورا ) . ذكر الزجاج في " كان " ثلاثة أوجه :
الأول : كان قبل أن خلق الخلق موصوفا بهذه الصفة .
الثاني : أنه قال ( كان ) مع أن جميع العباد بهذه الصفة ، والمقصود بيان أن هذه عادة الله تعالى أجراها في حق خلقه .
الثالث : لو قال : إنه تعالى عفو غفور كان هذا إخبارا عن كونه كذلك فقط ، ولما قال : إنه كان كذلك كان هذا إخبارا وقع مخبره على وفقه ، فكان ذلك أدل على كونه صدقا وحقا ومبرأ عن الخلف والكذب . واحتج أصحابنا بهذه الآية على ، فإنه لو لم يحصل ههنا شيء من الذنب لامتنع حصول العفو والمغفرة فيه ، فلما أخبر بالعفو والمغفرة دل على حصول الذنب ، ثم إنه تعالى وعد بالعفو مطلقا غير مقيد بحال التوبة فيدل على ما ذكرناه . أنه تعالى قد يعفو عن الذنب قبل التوبة