( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا ) .
قوله تعالى : ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا ) .
اعلم أن أحد الأمور التي يحتاج المجاهد إليها معرفة ، والاشتغال بمحاربة العدو ؛ فلهذا المعنى ذكره الله تعالى في هذه الآية ، وههنا مسائل : كيفية أداء الصلاة في زمان الخوف
المسألة الأولى : قال الواحدي : يقال قصر فلان صلاته وأقصرها وقصرها ، كل ذلك جائز ، وقرأ : تقصروا من أقصر ، وقرأ ابن عباس : من قصر ، وهذا دليل على اللغات الثلاث . الزهري
المسألة الثانية : اعلم أن لفظ القصر مشعر بالتخفيف ؛ لأنه ليس صريحا في أن المراد هو القصر في كمية الركعات وعددها أو في كيفية أدائها ، فلا جرم حصل في الآية قولان :
الأول : وهو قول الجمهور أن المراد منه القصر في عدد الركعات ، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا أيضا على قولين :
الأول : أن المراد منه ، وهو أن كل صلاة تكون في الحضر أربع ركعات ، فإنها تصير في السفر ركعتين ، فعلى هذا القصر إنما يدخل في صلاة الظهر والعصر والعشاء ، أما المغرب والصبح ، فلا يدخل فيهما القصر . صلاة المسافر
الثاني : أنه ليس المراد بهذه الآية صلاة السفر ، بل صلاة الخوف ، وهو قول ، ابن عباس وجماعة ، وجابر بن عبد الله : فرض الله صلاة الحضر أربعا ، وصلاة السفر ركعتين ، وصلاة الخوف ركعة على لسان نبيكم ابن عباس محمد صلى الله عليه وسلم ، فهذان القولان متفرعان على ما إذا قلنا : المراد من القصر تقليل الركعات . قال
القول الثاني : أن المراد من القصر إدخال التخفيف في كيفية أداء الركعات ، وهو أن يكتفي في الصلاة [ ص: 15 ] بالإيماء والإشارة بدل الركوع والسجود ، وأن يجوز المشي في الصلاة ، وأن تجوز الصلاة عند تلطخ الثوب بالدم ، وذلك هو الصلاة التي يؤتى بها حال شدة التحام القتال ، وهذا القول يروى عن ابن عباس . واحتج هؤلاء على صحة هذا القول بأن خوف الفتنة من العدو لا يزول فيما يؤتى بركعتين على إتمام أوصافهما ، وإنما ذلك فيما يشتد فيه الخوف في حال التحام القتال ، وهذا ضعيف ؛ لأنه يمكن أن يقال : إن صلاة المسافر إذا كانت قليلة الركعات ، فيمكنه أن يأتي بها على وجه لا يعلم خصمه بكونه مصليا ، أما إذا كثرت الركعات طالت المدة ولا يمكنه أن يأتي بها على حين غفلة من العدو . وطاوس
واعلم أن وجه الاحتمال ما ذكرنا ، وهو أن القصر مشعر بالتخفيف ، والتخفيف كما يحصل بحذف بعض الركعات فكذلك يحصل بأن يجعل الإيماء والإشارة قائما مقام الركوع والسجود .
واعلم أن حمل لفظ القصر على إسقاط بعض الركعات أولى ، ويدل عليه وجوه :
الأول : ما روي أنه قال : قلت يعلى بن أمية -رضي الله عنه- ، كيف نقصر وقد أمنا ، وقد قال الله تعالى : ( لعمر بن الخطاب فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم ) ؟ فقال : عجبت مما عجبت منه ، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" وهذا يدل على القصر المذكور في الآية هو القصر في عدد الركعات ، وأن ذلك كان مفهوما عندهم من معنى الآية . عن
الثاني : أن القصر عبارة عن أن يؤتى ببعض الشيء ، ويقتصر عليه ، فأما أن يؤتى بشيء آخر ، فذلك لا يسمى قصرا ، ولا اقتصارا ، ومعلوم أن إقامة الإيماء مقام الركوع والسجود ، وتجويز المشي في الصلاة ، وتجويز الصلاة مع الثوب الملطخ بالدم ، ليس شيء من ذلك قصرا ، بل كلها إثبات لأحكام جديدة وإقامة لشيء مقام شيء آخر ، فكان تفسير القصر بما ذكرنا أولى .
الثالث : أن " من " في قوله : ( من الصلاة ) للتبعيض ، وذلك يوجب جواز الاقتصار على بعض الصلاة ، فثبت بهذه الوجوه أن تفسير القصر بإسقاط بعض الركعات أولى من تفسيره بما ذكروه من الإيماء والإشارة .
الرابع : أن لفظ القصر كان مخصوصا في عرفهم بنقص عدد الركعات ، ولهذا المعنى ذو اليدين : أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ . لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر ركعتين ، قال
الخامس : أن القصر بمعنى تغير الصلاة مذكور في الآية التي بعد هذه الآية ، فوجب أن يكون المراد من هذه الآية بيان القصر بمعنى حذف الركعات ؛ لئلا يلزم التكرار ، والله أعلم .