المسألة السادسة : زعم داود وأهل الظاهر أن جواز القصر مخصوص بحال الخوف . واحتجوا بأنه تعالى أثبت هذا الحكم مشروطا بالخوف ، وهو فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) والمشروط بالشيء عدم عند عدم ذلك الشرط ، فوجب أن لا يحصل جواز قوله : ( . قالوا : ولا يجوز رفع هذا الشرط بخبر من أخبار الآحاد ؛ لأنه يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد وأنه لا يجوز ، ولقد صعب هذا الكلام على قوم ذكروا فيه وجوها متكلفة في الآية ؛ ليتخلصوا عن هذا الكلام . القصر عند الأمن
وعندي أنه ليس في هذا غموض ، وذلك لأنا بينا في تفسير قوله تعالى : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ) [النساء : 31] أن كلمة "إن" ، وكلمة " إذا" يفيدان أن عند حصول الشرط يحصل المشروط ، ولا يفيدان أن عند عدم الشرط يلزم عدم المشروط ، واستدللنا على صحة الكلام بآيات كثيرة ، وإذا ثبت هذا فنقول : قوله تعالى : ( إن خفتم ) يقتضي أن عند حصول الخوف تحصل الرخصة ، ولا يقتضي أن عند عدم الخوف لا تحصل الرخصة ، وإذا كان كذلك كانت الآية ساكتة عن حال الأمن بالنفي وبالإثبات ، وإثبات الرخصة حال الأمن بخبر الواحد يكون إثباتا لحكم سكت عنه القرآن بخبر الواحد ، وذلك غير ممتنع ، إنما الممتنع إثبات الحكم بخبر الواحد على خلاف ما دل عليه القرآن ، ونحن لا نقول به .
فإن قيل : فعلى هذا لما كان هذا الحكم ثابتا حال الأمن وحال الخوف ، فما الفائدة في تقييده بحال الخوف ؟ .
قلنا : إن الآية نزلت في غالب أسفار النبي صلى الله عليه وسلم ، وأكثرها لم يخل عن خوف العدو ، فذكر الله هذا الشرط من حيث إنه هو الأغلب في الوقوع ، ومن الناس من أجاب عنه بأن القصر المذكور في الآية المراد منه الاكتفاء بالإيماء والإشارة بدلا عن الركوع والسجود . وذلك هو الصلاة حال شدة الخوف ، ولا شك أن هذه الصلاة مخصوصة بحال الخوف ، فإن وقت الأمن لا يجوز الإتيان بهذه الصلاة ، ولا تكون محرمة ولا صحيحة ، والله أعلم .
ثم يقال لأهل الظاهر : إن ظاهر هذه الآية يقتضي أن لا يجوز القصر إلا عند حصول الخوف الحاصل من فتنة الكفار ، وأما لو حصل الخوف بسبب آخر وجب أن لا يجوز القصر ، فإن التزموا ذلك سلموا من الطعن ، إلا أنه بعيد ، وإن لم يلتزموه توجه النقض عليهم ؛ لأنه تعالى قال : [ ص: 19 ] ( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) وذلك يقتضي أن الشرط هو هذا الخوف المخصوص ، ولهم أن يقولوا : إما أن يقال : حصل إجماع الصحابة والأمة على أن مطلق الخوف كاف ، أو لم يحصل الإجماع ، فإن حصل الإجماع فنقول : خالفنا ظاهر القرآن بدلالة الإجماع ، وهو دليل قاطع فلم تجز مخالفته بدليل ظني ، وإن لم يحصل الإجماع فقد زال السؤال ؛ لأنا نلتزم أنه لا يجوز القصر إلا مع هذا الخوف المخصوص ، والله أعلم .
أما قوله : ( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) ففي تفسير هذه الفتنة قولان :
الأول : خفتم أن يفتنوكم عن إتمام الركوع والسجود في جميعها .
الثاني : إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا بعداوتهم ، والحاصل أن كل محنة وبلية وشدة فهي فتنة .
ثم قال تعالى : ( إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا ) والمعنى : أن العداوة الحاصلة بينكم وبين الكافرين قديمة ، والآن قد أظهرتم خلافهم في الدين وازدادت عداوتهم ، وبسبب شدة العداوة أقدموا على محاربتكم وقصد إتلافكم إن قدروا ، فإن طالت صلاتكم فربما وجدوا الفرصة في قتلكم ، فعلى هذا رخصت لكم في ، وإنما قال : ( عدوا ) ولم يقل : أعداء ؛ لأن العدو يستوي فيه الواحد والجمع ، قال تعالى : ( قصر الصلاة فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ) [الشعراء : 77] .