ثم قال تعالى : ( يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حميد بن قيس الأعرج ( تبتغون ) بالتاء على خطاب المؤمنين .
المسألة الثانية : في تفسير الفضل والرضوان وجهان :
الأول : يبتغون فضلا من ربهم بالتجارة المباحة لهم في حجهم ، كقوله ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) [البقرة : 198] قالوا : نزلت في تجاراتهم أيام الموسم ، والمعنى : لا تمنعوهم فإنما قصدوا البيت لإصلاح معاشهم ومعادهم ، فابتغاء الفضل للدنيا ، وابتغاء الرضوان للآخرة . قال أهل العلم : إن المشركين كانوا يقصدون بحجهم ابتغاء رضوان الله وإن كانوا لا ينالون ذلك ، فلا يبعد أن يحصل لهم بسبب هذا القصد نوع من الحرمة .
[ ص: 103 ]
والوجه الثاني : أن المراد بفضل الله الثواب ، وبالرضوان أن يرضى عنهم ، وذلك لأن الكافر وإن كان لا ينال الفضل والرضوان لكنه يظن أنه بفعله طالب لهما ، فيجوز أن يوصف بذلك بناء على ظنه ، قال تعالى : ( وانظر إلى إلهك ) [طه : 97] وقال : ( ذق إنك أنت العزيز الكريم ) [الدخان : 49] .
المسألة الثالثة : اختلف الناس فقال بعضهم : هذه الآية منسوخة ، لأن قوله : ( لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ) يقتضي حرمة ، وذلك منسوخ بقوله : ( القتال في الشهر الحرام فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) [التوبة : 5] وقوله : ( ولا آمين البيت الحرام ) يقتضي حرمة المسجد الحرام وذلك منسوخ بقوله : ( منع المشركين عن فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) [التوبة : 28] وهذا قول كثير من المفسرين كابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة . وقال : لم ينسخ من سورة المائدة إلا هذه الآية . وقال قوم آخرون من المفسرين : هذه الآية غير منسوخة ، وهؤلاء لهم طريقان : الشعبي
الأول : أن الله تعالى أمرنا في هذه الآية أن لا نخيف من يقصد بيته من المسلمين ، وحرم علينا أخذ الهدي من المهدين إذا كانوا مسلمين ، والدليل عليه أول الآية وآخرها ، أما أول الآية فهو قوله : ( لا تحلوا شعائر الله ) وشعائر الله إنما تليق بنسك المسلمين وطاعاتهم لا بنسك الكفار ، وأما آخر الآية فهو قوله : ( يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا ) وهذا إنما يليق بالمسلم لا بالكافر .
الثاني : قال أبو مسلم الأصفهاني : المراد بالآية الكفار الذين كانوا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما زال العهد بسورة براءة زال ذلك الحظر ولزم المراد بقوله تعالى : ( فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) . [التوبة : 28 ] .
ثم قال تعالى : ( وإذا حللتم فاصطادوا ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرئ : وإذا أحللتم يقال حل المحرم وأحل ، وقرئ بكسر الفاء وقيل هو بدل من كسر الهمزة عند الابتداء .
المسألة الثانية : هذه الآية متعلقة بقوله : ( غير محلي الصيد وأنتم حرم ) يعني لما كان المانع من حل الاصطياد هو الإحرام ، فإذا زال الإحرام وجب أن يزول المنع .
المسألة الثالثة : ظاهر الأمر وإن كان للوجوب إلا أنه لا يفيد ههنا إلا الإباحة . وكذا في قوله : ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ) [الجمعة : 10] ونظيره قول القائل : لا تدخلن هذه الدار حتى تؤدي ثمنها ، فإذا أديت فادخلها ، أي : فإذا أديت فقد أبيح لك دخولها ، وحاصل الكلام أنا إنما عرفنا أن الأمر ههنا لم يفد الوجوب بدليل منفصل والله أعلم .
ثم قال تعالى : ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا ) وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال القفال - رحمه الله - : هذا معطوف على قوله : ( لا تحلوا شعائر الله ) إلى قوله : ( ولا آمين البيت الحرام ) يعني ولا تحملنكم عداوتكم لقوم من أجل أنهم صدوكم عن المسجد الحرام على أن تعتدوا فتمنعوهم عن المسجد الحرام ، فإن الباطل لا يجوز أن يعتدى به . وليس للناس أن يعين بعضهم بعضا على العدوان حتى إذا تعدى واحد منهم على الآخر تعدى ذلك الآخر عليه ، لكن الواجب أن يعين بعضهم بعضا على ما فيه البر والتقوى ، فهذا هو المقصود من الآية .
[ ص: 104 ] المسألة الثانية : قال صاحب " الكشاف " ، تقول : جرم ذنبا نحو كسبه ، وجرمته ذنبا نحو كسبته إياه ، ويقال : أجرمته ذنبا على نقل المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين ، كقولهم : أكسبته ذنبا ، وعليه قراءة ( جرم ) يجري مجرى كسب في تعديه تارة إلى مفعول واحد ، وتارة إلى اثنين عبد الله " ولا يجرمنكم " بضم الياء ، وأول المفعولين على القراءتين ضمير المخاطبين .
والثاني : أن تعتدوا ، والمعنى لا يكسبنكم بغض قوم لأن صدوكم الاعتداء ولا يحملنكم عليه .
المسألة الثالثة : الشنآن البغض ، يقال : شنأت الرجل أشنؤه شنأ ومشنأ وشنأة ومشنأة وشنآنا بفتح الشين وكسرها ، ويقال : رجل شنآن وامرأة شنآنة مصروفان ، ويقال شنآن بغير صرف ، وفعلان قد جاء وصفا وقد جاء مصدرا .
المسألة الرابعة : قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وإسماعيل عن نافع بجزم النون الأولى ، والباقون بالفتح . قالوا : والفتح أجود لكثرة نظائرها في المصادر كالضربان والسيلان والغليان والغشيان ، وأما بالسكون فقد جاء في الأكثر وصفا . قال الواحدي : ومما جاء مصدرا قولهم : لويته حقه ليانا ، وشنآن في قول أبي عبيدة . وأنشد للأحوص :
وإن عاب فيه ذو الشنآن وفندا
فقوله : ذو الشنآن على التخفيف كقولهم : إني ظمآن ، وفلان ظمآن ، بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على ما قبلها .المسألة الخامسة : قرأ ابن كثير وأبو عمرو ( وإن صدوكم ) بكسر الألف على الشرط والجزاء ، والباقون بفتح الألف ، يعني لأن صدوكم . قال : وهذه القراءة هي الاختيار لأن معنى صدهم إياهم عن محمد بن جرير الطبري المسجد الحرام منع أهل مكة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين يوم الحديبية عن العمرة ، وهذه السورة نزلت بعد الحديبية ، وكان هذا الصد متقدما لا محالة على نزول هذه الآية .
ثم قال تعالى : ( واتقوا الله إن الله شديد العقاب ) والمراد منه التهديد والوعيد ، يعني اتقوا الله ولا تستحلوا شيئا من محارمه إن الله شديد العقاب ، لا يطيق أحد عقابه .