الباب الخامس
في تفسير سورة الفاتحة ، وفيه فصول
الفصل الأول
في تفسير قوله تعالى : ( الحمد لله ) وفيه وجوه :
الأول : هاهنا ألفاظ ثلاثة : الحمد والمدح والشكر ، فنقول : من وجوه : الفرق بين الحمد والمدح
الأول : أن المدح قد يحصل للحي ولغير الحي ، ألا ترى أن من رأى لؤلؤة في غاية الحسن أو ياقوتة في غاية الحسن فإنه قد يمدحها ، ويستحيل أن يحمدها ، فثبت أن المدح أعم من الحمد .
الوجه الثاني في الفرق : أن المدح قد يكون قبل الإحسان وقد يكون بعده ، أما الحمد فإنه لا يكون إلا بعد الإحسان .
الوجه الثالث في الفرق : أن المدح قد يكون منهيا عنه ، قال عليه الصلاة والسلام : " " أما الحمد فإنه مأمور به مطلقا ، قال صلى الله عليه وسلم : [ ص: 179 ] " احثوا التراب في وجوه المداحين " . من لم يحمد الناس لم يحمد الله
الوجه الرابع : أن المدح عبارة عن القول الدال على كونه مختصا بنوع من أنواع الفضائل ، وأما الحمد فهو القول الدال على كونه مختصا بفضيلة معينة ، وهي فضيلة الإنعام والإحسان . فثبت بما ذكرنا أن المدح أعم من الحمد .
وأما فهو أن الحمد يعم ما إذا وصل ذلك الإنعام إليك أو إلى غيرك ، وأما الشكر فهو مختص بالإنعام الواصل إليك . الفرق بين الحمد وبين الشكر
إذا عرفت هذا فنقول : قد ذكرنا أن المدح حاصل للحي ولغير الحي ، وللفاعل المختار ولغيره ، فلو قال : المدح لله لم يدل ذلك على كونه تعالى فاعلا مختارا ، أما لما قال : الحمد لله فهو يدل على كونه مختارا ، فقوله : ( الحمد لله ) يدل على كون هذا القائل مقرا بأن إله العالم ليس موجبا بالذات كما تقول الفلاسفة بل هو فاعل مختار ، وأيضا فقوله : الحمد لله أولى من قوله : الشكر لله ؛ لأن قوله : الحمد لله ثناء على الله بسبب كل إنعام صدر منه ووصل إلى غيره ، وأما الشكر لله فهو ثناء بسبب إنعام وصل إلى ذلك القائل ، ولا شك أن الأول أفضل ؛ لأن التقدير كأن العبد يقول : سواء أعطيتني أو لم تعطني فإنعامك واصل إلى كل العالمين ، وأنت مستحق للحمد العظيم ، وقيل : الحمد على ما دفع الله من البلاء ، والشكر على ما أعطى من النعماء .
فإن قيل : ، فلماذا ترك الأكثر وذكر الأقل ؟ قلنا فيه وجوه : النعمة في الإعطاء أكثر من النعمة في دفع البلاء
الأول : كأنه يقول : أنا شاكر لأدنى النعمتين فكيف لأعلاهما .
الثاني : المنع غير متناه ، والإعطاء متناه ، فكان الابتداء بشكر دفع البلاء الذي لا نهاية له أولى .
الثالث : أن دفع الضرر أهم من جلب النفع ؛ فلهذا قدمه .
الفائدة الثانية : أنه تعالى لم يقل : أحمد الله ، ولكن قال : ( الحمد لله ) وهذه العبارة الثانية أولى ؛ لوجوه :
أحدها : أنه لو قال : أحمد الله ، أفاد ذلك كون ذلك القائل قادرا على حمده ، أما لما قال : ( الحمد لله ) فقد أفاد ذلك أنه كان محمودا قبل حمد الحامدين وقبل شكر الشاكرين ، فهؤلاء سواء حمدوا أو لم يحمدوا ، وسواء شكروا أو لم يشكروا ، فهو تعالى محمود من الأزل إلى الأبد بحمده القديم وكلامه القديم .
وثانيها : أن قولنا الحمد لله ، معناه أن الحمد والثناء حق لله وملكه ، فإنه تعالى هو المستحق للحمد بسبب كثرة أياديه وأنواع آلائه على العباد ، فقولنا : الحمد لله معناه أن الحمد لله حق يستحقه لذاته ، ولو قال : أحمد الله ، لم يدل ذلك على كونه مستحقا للحمد لذاته ، ومعلوم أن اللفظ الدال على كونه مستحقا للحمد أولى من اللفظ الدال على أن شخصا واحدا حمده .
وثالثها : أنه لو قال : أحمد الله لكان قد حمد ، لكن لا حمدا يليق به ، وأما إذا قال : الحمد لله ، فكأنه قال : من أنا حتى أحمده ؟ لكنه محمود بجميع حمد الحامدين ، مثاله ما لو سئلت : هل لفلان عليك نعمة ؟ فإن قلت : نعم ، فقد حمدته ولكن حمدا ضعيفا ، ولو قلت في الجواب : بل نعمه على كل الخلائق ، فقد حمدته بأكمل المحامد .
ورابعها : أن الحمد عبارة عن صفة القلب ، وهي اعتقاد كون ذلك المحمود متفضلا منعما مستحقا للتعظيم والإجلال ، فإذا تلفظ الإنسان بقوله : أحمد الله مع أنه كان قلبه غافلا عن معنى التعظيم اللائق بجلال الله كان كاذبا ؛ لأنه أخبر عن نفسه بكونه حامدا مع أنه ليس كذلك ، أما إذا قال : الحمد لله ، سواء كان غافلا أو مستحضرا لمعنى التعظيم فإنه يكون صادقا ؛ لأن معناه أن الحمد حق لله وملكه ، وهذا المعنى حاصل سواء كان العبد مشتغلا بمعنى التعظيم والإجلال أو لم يكن ، فثبت أن قوله : الحمد لله [ ص: 180 ] أولى من قوله : أحمد الله ، ونظيره قولنا : لا إله إلا الله ، فإنه لا يدخله التكذيب ، بخلاف قولنا : أشهد أن لا إله إلا الله ؛ لأنه قد يكون كاذبا في قوله : أشهد ؛ ولهذا قال تعالى في تكذيب المنافقين : ( والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ) [ المنافقون : 1 ] ولهذا السر أمر في الأذان بقوله : أشهد ، ثم وقع الختم على قوله : لا إله إلا الله .
الفائدة الثالثة : اللام في قوله : الحمد لله يحتمل وجوها كثيرة :
أحدها : الاختصاص اللائق كقولك : الجل للفرس .
وثانيها : الملك كقولك : الدار لزيد .
وثالثها : القدرة والاستيلاء ، كقولك : البلد للسلطان ، واللام في قولك : الحمد لله يحتمل هذه الوجوه الثلاثة ، فإن حملته على الاختصاص اللائق فمن المعلوم أنه لا يليق الحمد إلا به لغاية جلاله وكثرة فضله وإحسانه ، وإن حملته على الملك فمعلوم أنه تعالى مالك للكل ، فوجب أن يملك منهم كونهم مشتغلين بحمده ، وإن حملته على الاستيلاء والقدرة فالحق سبحانه وتعالى كذلك ؛ لأنه واجب لذاته ، وما سواه ممكن لذاته ، والواجب لذاته مستول على الممكن لذاته ، فالحمد لله بمعنى أن الحمد لا يليق إلا به ، وبمعنى أن الحمد ملكه وملكه ، وبمعنى أنه هو المستولي على الكل والمستعلي على الكل .
الفائدة الرابعة : قوله : ( الحمد لله ) ثمانية أحرف ، وأبواب الجنة ثمانية ، فمن قال هذه الثمانية عن صفاء قلبه استحق ثمانية أبواب الجنة .
الفائدة الخامسة : الحمد لفظة مفردة دخل عليها حرف التعريف ، وفيه قولان :
الأول : أنه إن كان مسبوقا بمعهود سابق انصرف إليه ، وإلا يحمل على الاستغراق ؛ صونا للكلام عن الإجمال .
والقول الثاني : أنه لا يفيد العموم إلا أنه يفيد الماهية والحقيقة فقط . إذا عرفت هذه فنقول : قوله : ( الحمد لله ) إن قلنا بالقول الأول أفاد أن كل ما كان حمدا وثناء فهو لله وحقه وملكه ، وحينئذ يلزم أن يقال : إن ما سوى الله فإنه لا يستحق الحمد والثناء البتة ، وإن قلنا بالقول الثاني كان معناه أن ماهية الحمد حق لله تعالى وملك له ، وذلك ينفي كون فرد من أفراد هذه الماهية لغير الله ، فثبت على القولين أن قوله : ( الحمد لله ) ينفي حصول الحمد لغير الله .
فإن قيل : أليس أن المنعم يستحق الحمد من المنعم عليه ، والأستاذ يستحق الحمد من التلميذ ، والسلطان العادل يستحق الحمد من الرعية ، وقال عليه السلام : من لم يحمد الناس لم يحمد الله .
قلنا : إن كل من أنعم على غيره بإنعام فالمنعم في الحقيقة هو الله تعالى ؛ لأنه لولا أنه تعالى خلق تلك الداعية في قلب ذلك المنعم ، وإلا لم يقدم على ذلك الإنعام ، ولولا أنه تعالى خلق تلك النعمة وسلط ذلك المنعم عليها ، ومكن المنعم عليه من الانتفاع - لما حصل الانتفاع بتلك النعمة ، فثبت أن المنعم في الحقيقة هو الله .