الفصل الثاني
في تفسير قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2رب العالمين ، وفيه فوائد
الفائدة الأولى : اعلم أن الموجود إما أن يكون واجبا لذاته ، وإما أن يكون ممكنا لذاته ، أما الواجب لذاته فهو الله تعالى فقط ، وأما الممكن لذاته فهو كل ما سوى الله تعالى وهو العالم ؛ لأن المتكلمين قالوا : العالم كل موجود سوى الله ، وسبب تسمية هذا القسم بالعالم أن وجود كل شيء سوى الله يدل على وجود الله تعالى ، فلهذا السبب سمي كل موجود سوى الله بأنه عالم . إذا عرفت هذا فنقول : كل ما سوى الله تعالى إما أن يكون متحيزا ، وإما أن يكون صفة للمتحيز ، وإما أن لا يكون متحيزا ، ولا صفة للمتحيز ، فهذه أقسام ثلاثة :
القسم الأول المتحيز : وهو إما أن يكون قابلا للقسمة ، أو لا يكون ، فإن كان قابلا للقسمة فهو الجسم ، وإن لم يكن كذلك فهو الجوهر الفرد ؛ أما الجسم فإما أن يكون من الأجسام العلوية أو من الأجسام السفلية ؛ أما الأجسام العلوية فهي الأفلاك والكواكب ، وقد ثبت بالشرع أشياء أخر سوى هذين القسمين ، مثل العرش ، والكرسي ، وسدرة المنتهى ، واللوح ، والقلم ، والجنة ، وأما الأجسام السفلية فهي إما بسيطة أو مركبة : أما البسيطة فهي العناصر الأربعة :
وأحدها : كرة الأرض بما فيها من المفاوز والجبال والبلاد المعمورة .
وثانيها : كرة الماء وهي البحر المحيط وهذه الأبحر الكبيرة الموجودة في هذا الربع المعمور وما فيه من الأودية العظيمة التي لا يعلم عددها إلا الله تعالى .
وثالثها : كرة الهواء .
ورابعها : كرة النار . وأما الأجسام المركبة فهي النبات ، والمعادن ، والحيوان ، على كثرة أقسامها وتباين أنواعها .
وأما القسم الثاني - وهو الممكن الذي يكون صفة للمتحيزات - فهي الأعراض ، والمتكلمون ذكروا ما يقرب من أربعين جنسا من أجناس الأعراض .
أما الثالث - وهو الممكن الذي لا يكون متحيزا ولا صفة للمتحيز - فهو
[ ص: 187 ] الأرواح ، وهي إما سفلية ، وإما علوية : أما السفلية فهي إما خيرة ، وهم صالحو الجن ، وإما شريرة خبيثة وهي مردة الشياطين . والأرواح العلوية إما متعلقة بالأجسام وهي الأرواح الفلكية ، وإما غير متعلقة بالأجسام ، وهي الأرواح المطهرة المقدسة ، فهذا هو الإشارة إلى تقسيم موجودات العالم ، ولو أن الإنسان كتب ألف ألف مجلد في شرح هذه الأقسام لما وصل إلى أقل مرتبة من مراتب هذه الأقسام ، إلا أنه لما ثبت أن واجب الوجود لذاته واحد ، ثبت أن كل ما سواه ممكن لذاته ، فيكون محتاجا في وجوده إلى إيجاد الواجب لذاته ، وأيضا ثبت أن الممكن حال بقائه لا يستغني عن المبقي ، والله تعالى إله العالمين من حيث إنه هو الذي أخرجها من العدم إلى الوجود ، وهو رب العالمين من حيث إنه هو الذي يبقيها حال دوامها واستقرارها . وإذا عرفت ذلك ظهر عندك شيء قليل من تفسير قوله : الحمد لله رب العالمين ، وكل من كان أكثر إحاطة بأحوال هذه الأقسام الثلاثة كان أكثر وقوفا على تفسير قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2رب العالمين ) .
الفائدة الثانية : المربي على قسمين أحدهما : أن يربي شيئا ليربح عليه المربي ، والثاني : أن يربيه ليربح المربي ، وتربية كل الخلق على القسم الأول ؛ لأنهم إنما يربون غيرهم ليربحوا عليه إما ثوابا أو ثناء ، والقسم الثاني هو الحق سبحانه ، كما قال : خلقتكم لتربحوا علي لا لأربح عليكم فهو تعالى يربي ويحسن ، وهو بخلاف سائر المربين وبخلاف سائر المحسنين .
واعلم أن
nindex.php?page=treesubj&link=28658_29485_29703تربيته تعالى مخالفة لتربية غيره ، وبيانه من وجوه :
الأول : ما ذكرناه أنه تعالى يربي عبيده لا لغرض نفسه بل لغرضهم ، وغيره يربون لغرض أنفسهم لا لغرض غيرهم .
الثاني : أن غيره إذا ربى فبقدر تلك التربية يظهر النقصان في خزائنه وفي ماله ، وهو تعالى متعال عن النقصان والضرر ، كما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=21وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ) [ الحجر : 21 ] .
الثالث : أن غيره من المحسنين إذا ألح الفقير عليه أبغضه وحرمه ومنعه ، والحق تعالى بخلاف ذلك ، كما قال عليه الصلاة والسلام :
nindex.php?page=treesubj&link=19769إن الله تعالى يحب الملحين في الدعاء .
الرابع : أن غيره من المحسنين ما لم يطلب منه الإحسان لم يعط ، أما
nindex.php?page=treesubj&link=29485_29703_32412الحق تعالى فأنه يعطي قبل السؤال ، ترى أنه رباك حال ما كنت جنينا في رحم الأم ، وحال ما كنت جاهلا غير عاقل ، لا تحسن أن تسأل منه ، ووقاك وأحسن إليك مع أنك ما سألته ، وما كان لك عقل ولا هداية .
الخامس : أن غيره من المحسنين ينقطع إحسانه إما بسبب الفقر أو الغيبة أو الموت ، والحق تعالى لا ينقطع إحسانه البتة .
السادس : أن غيره من المحسنين يختص إحسانه بقوم دون قوم ولا يمكنه التعميم ، أما الحق تعالى فقد وصل تربيته وإحسانه إلى الكل ، كما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=156ورحمتي وسعت كل شيء ) [ الأعراف : 156 ] فثبت أنه تعالى رب العالمين ، ومحسن إلى الخلائق أجمعين ؛ فلهذا قال تعالى في حق نفسه :
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الحمد لله رب العالمين .
الفائدة الثالثة : أن الذي يحمد ويمدح ويعظم في الدنيا إنما يكون كذلك لأحد وجوه أربعة :
إما لكونه كاملا في ذاته وفي صفاته منزها عن جميع النقائص والآفات وإن لم يكن منه إحسان إليك .
وإما لكونه محسنا إليك ومنعما عليك .
وإما لأنك ترجو وصول إحسانه إليك في المستقبل من الزمان .
وإما لأجل أنك تكون خائفا من قهره وقدرته وكمال سطوته ، فهذه الحالات هي الجهات الموجبة للتعظيم ، فكأنه سبحانه وتعالى يقول : إن كنتم ممن يعظمون الكمال الذاتي فاحمدوني فإني إله العالمين ، وهو المراد من قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الحمد لله ، وإن كنتم ممن تعظمون الإحسان فأنا رب العالمين ، وإن كنتم تعظمون للطمع في المستقبل فأنا
[ ص: 188 ] الرحمن الرحيم ، وإن كنتم تعظمون للخوف فأنا مالك يوم الدين .
الفائدة الرابعة : وجوه
nindex.php?page=treesubj&link=29485_29703_32688تربية الله للعبد كثيرة غير متناهية ، ونحن نذكر منها أمثلة :
المثال الأول : لما وقعت قطرة النطفة من صلب الأب إلى رحم الأم فانظر كيف أنها صارت علقة أولا ، ثم مضغة ثانيا ، ثم تولدت منها أعضاء مختلفة مثل العظام والغضاريف والرباطات والأوتار والأوردة والشرايين ، ثم اتصل البعض بالبعض ، ثم حصل في كل واحد منها نوع خاص من أنواع القوى ، فحصلت القوة الباصرة في العين ، والسامعة في الأذن ، والناطقة في اللسان ، فسبحان من أسمع بعظم ، وبصر بشحم ، وأنطق بلحم . واعلم أن كتاب التشريح لبدن الإنسان مشهور ، وكل ذلك يدل على تربية الله تعالى للعبد .
المثال الثاني : أن
nindex.php?page=treesubj&link=19784_19786الحبة الواحدة إذا وقعت في الأرض فإذا وصلت نداوة الأرض إليها انتفخت ولا تنشق من شيء من الجوانب إلا من أعلاها وأسفلها ، مع أن الانتفاخ حاصل من جميع الجوانب : أما الشق الأعلى فيخرج منه الجزء الصاعد من الشجرة ؛ وأما الشق الأسفل فيخرج منه الجزء الغائص في الأرض ، وهو عروق الشجرة ، فأما الجزء الصاعد فبعد صعوده يحصل له ساق ، ثم ينفصل من ذلك الساق أغصان كثيرة ، ثم يظهر على تلك الأغصان الأنوار أولا ، ثم الثمار ثانيا ، ويحصل لتلك الثمار أجزاء مختلفة بالكثافة واللطافة ، وهي القشور ثم اللبوب ثم الأدهان ، وأما الجزء الغائص من الشجرة فإن تلك العروق تنتهي إلى أطرافها ؛ وتلك الأطراف تكون في اللطافة كأنها مياه منعقدة ، ومع غاية لطافتها فإنها تغوص في الأرض الصلبة الخشنة ، وأودع الله فيها قوى جاذبة تجذب الأجزاء اللطيفة من الطين إلى نفسها ، والحكمة في كل هذه التدبيرات تحصيل ما يحتاج العبد إليه من الغذاء والأدام والفواكه والأشربة والأدوية ، كما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=25أنا صببنا الماء صبا nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=26ثم شققنا الأرض شقا ) [ عبس : 25 ، 26 ] الآيات . المثال الثالث : أنه وضع الأفلاك والكواكب بحيث صارت أسبابا لحصول مصالح العباد ، فخلق الليل ليكون سببا للراحة والسكون ، وخلق النهار ليكون سببا للمعاش والحركة (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=5هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ) [ يونس : 5 ] ، ما خلق الله ذلك إلا بالحق ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=97وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر ) [ الأنعام : 97 ] واقرأ قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=6ألم نجعل الأرض مهادا nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=7والجبال أوتادا ) - إلى آخر الآية [ النبأ : 6 ، 7 ] ، واعلم أنك إذا تأملت في عجائب أحوال المعادن والنبات والحيوان ، وآثار حكمة الرحمن في خلق الإنسان ، قضى صريح عقلك بأن أسباب تربية الله كثيرة ، ودلائل رحمته لائحة ظاهرة ، وعند ذلك يظهر لك قطرة من بحار أسرار قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الحمد لله رب العالمين .
الفائدة الخامسة :
nindex.php?page=treesubj&link=33144_28972أضاف الحمد إلى نفسه فقال تعالى : ( nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الحمد لله ) ، ثم أضاف نفسه إلى العالمين ، والتقدير : إني أحب الحمد ، فنسبته إلى نفسي بكونه ملكا ، ثم لما ذكرت نفسي عرفت نفسي بكوني ربا للعالمين ، ومن عرف ذاتا بصفة فإنه يحاول ذكر أحسن الصفات وأكملها ، وذلك يدل على أن كونه ربا للعالمين أكمل الصفات ، والأمر كذلك ؛ لأن أكمل المراتب أن يكون تاما ، وفوق التمام ، فقولنا : الله يدل على كونه واجب الوجود لذاته في ذاته وبذاته وهو التمام ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2رب العالمين ) معناه أن وجود كل ما سواه فائض عن تربيته وإحسانه وجوده ، وهو المراد من قولنا أنه فوق التمام .
الفائدة السادسة : أنه يملك عبادا غيرك كما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=31وما يعلم جنود ربك إلا هو ) [ المدثر : 31 ] وأنت ليس لك رب سواه ، ثم إنه يربيك كأنه ليس له عبد سواك وأنت تخدمه كأن لك ربا غيره ، فما أحسن هذه
[ ص: 189 ] التربية ، أليس أنه يحفظك في النهار عن الآفات من غير عوض ، وبالليل عن المخافات من غير عوض ؟ واعلم أن الحراس يحرسون الملك كل ليلة ، فهل يحرسونه عن لدغ الحشرات ؟ وهل يحرسونه عن أن تنزل به البليات ؟ أما الحق تعالى فإنه يحرسه من الآفات ، ويصونه من المخافات ؛ بعد أن كان قد زج أول الليل في أنواع المحظورات وأقسام المحرمات والمنكرات ، فما أكبر هذه التربية وما أحسنها ، أليس من التربية أنه صلى الله عليه وسلم قال :
الآدمي بنيان الرب ، ملعون من هدم بنيان الرب ؛ فلهذا المعنى قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=42قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن ) [ الأنبياء : 42 ] ما ذاك إلا الملك الجبار ، والواحد القهار ، ومقلب القلوب والأبصار ، والمطلع على الضمائر والأسرار .
الفائدة السابعة : قالت
القدرية : إنما يكون تعالى ربا للعالمين ومربيا لهم لو كان محسنا إليهم دافعا للمضار عنهم ، أما إذا خلق الكفر في الكافر ثم يعذبه عليه ؛ ويأمر بالإيمان ثم يمنعه منه ، لم يكن ربا ولا مربيا ، بل كان ضارا ومؤذيا ، وقالت
الجبرية : إنما سيكون ربا ومربيا لو كانت النعمة صادرة منه والألطاف فائضة من رحمته ، ولما كان الإيمان أعظم النعم وأجلها وجب أن يكون حصولها من الله تعالى ؛ ليكون ربا للعالمين إليهم محسنا بخلق الإيمان فيهم .
الفائدة الثامنة : قولنا " الله " أشرف من قولنا " رب " على ما بينا ذلك بالوجوه الكثيرة في تفسير أسماء الله تعالى ، ثم إن الداعي في أكثر الأمر يقول : يا رب ، يا رب ، والسبب فيه النكت والوجوه المذكورة في تفسير أسماء الله تعالى فلا نعيدها .
الْفَصْلُ الثَّانِي
فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَفِيهِ فَوَائِدُ
الْفَائِدَةُ الْأُولَى : اعْلَمْ أَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا لِذَاتِهِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ ، أَمَّا الْوَاجِبُ لِذَاتِهِ فَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَقَطْ ، وَأَمَّا الْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ فَهُوَ كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْعَالَمُ ؛ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ قَالُوا : الْعَالَمُ كُلُّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّهِ ، وَسَبَبُ تَسْمِيَةِ هَذَا الْقِسْمِ بِالْعَالَمِ أَنَّ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ سِوَى اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَلِهَذَا السَّبَبِ سُمِّيَ كُلُّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّهِ بِأَنَّهُ عَالَمٌ . إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ : كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَحَيِّزًا ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْمُتَحَيِّزِ ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ مُتَحَيِّزًا ، وَلَا صِفَةَ لِلْمُتَحَيِّزِ ، فَهَذِهِ أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ :
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ الْمُتَحَيِّزُ : وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِلْقِسْمَةِ ، أَوْ لَا يَكُونَ ، فَإِنْ كَانَ قَابِلًا لِلْقِسْمَةِ فَهُوَ الْجِسْمُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ الْجَوْهَرُ الْفَرْدُ ؛ أَمَّا الْجِسْمُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَجْسَامِ الْعُلْوِيَّةِ أَوْ مِنَ الْأَجْسَامِ السُّفْلِيَّةِ ؛ أَمَّا الْأَجْسَامُ الْعُلْوِيَّةُ فَهِيَ الْأَفْلَاكُ وَالْكَوَاكِبُ ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالشَّرْعِ أَشْيَاءُ أُخَرُ سِوَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ ، مِثْلُ الْعَرْشِ ، وَالْكُرْسِيِّ ، وَسِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ، وَاللَّوْحِ ، وَالْقَلَمِ ، وَالْجَنَّةِ ، وَأَمَّا الْأَجْسَامُ السُّفْلِيَّةُ فَهِيَ إِمَّا بَسِيطَةٌ أَوْ مُرَكَّبَةٌ : أَمَّا الْبَسِيطَةُ فَهِيَ الْعَنَاصِرُ الْأَرْبَعَةُ :
وَأَحَدُهَا : كُرَةُ الْأَرْضِ بِمَا فِيهَا مِنَ الْمَفَاوِزِ وَالْجِبَالِ وَالْبِلَادِ الْمَعْمُورَةِ .
وَثَانِيهَا : كُرَةُ الْمَاءِ وَهِيَ الْبَحْرُ الْمُحِيطُ وَهَذِهِ الْأَبْحُرُ الْكَبِيرَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي هَذَا الرُّبْعِ الْمَعْمُورِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْأَوْدِيَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا يَعْلَمُ عَدَدَهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى .
وَثَالِثُهَا : كُرَةُ الْهَوَاءِ .
وَرَابِعُهَا : كُرَةُ النَّارِ . وَأَمَّا الْأَجْسَامُ الْمُرَكَّبَةُ فَهِيَ النَّبَاتُ ، وَالْمَعَادِنُ ، وَالْحَيَوَانُ ، عَلَى كَثْرَةِ أَقْسَامِهَا وَتَبَايُنِ أَنْوَاعِهَا .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي - وَهُوَ الْمُمْكِنُ الَّذِي يَكُونُ صِفَةً لِلْمُتَحَيِّزَاتِ - فَهِيَ الْأَعْرَاضُ ، وَالْمُتَكَلِّمُونَ ذَكَرُوا مَا يَقْرُبُ مِنْ أَرْبَعِينَ جِنْسًا مِنْ أَجْنَاسِ الْأَعْرَاضِ .
أَمَّا الثَّالِثُ - وَهُوَ الْمُمْكِنُ الَّذِي لَا يَكُونُ مُتَحَيِّزًا وَلَا صِفَةً لِلْمُتَحَيِّزِ - فَهُوَ
[ ص: 187 ] الْأَرْوَاحُ ، وَهِيَ إِمَّا سُفْلِيَّةٌ ، وَإِمَّا عُلْوِيَّةٌ : أَمَّا السُّفْلِيَّةُ فَهِيَ إِمَّا خَيِّرَةٌ ، وَهُمْ صَالِحُو الْجِنِّ ، وَإِمَّا شِرِّيرَةٌ خَبِيثَةٌ وَهِيَ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ . وَالْأَرْوَاحُ الْعُلْوِيَّةُ إِمَّا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأَجْسَامِ وَهِيَ الْأَرْوَاحُ الْفَلَكِيَّةُ ، وَإِمَّا غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْأَجْسَامِ ، وَهِيَ الْأَرْوَاحُ الْمُطَهَّرَةُ الْمُقَدَّسَةُ ، فَهَذَا هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى تَقْسِيمِ مَوْجُودَاتِ الْعَالَمِ ، وَلَوْ أَنَّ الْإِنْسَانَ كَتَبَ أَلْفَ أَلْفِ مُجَلَّدٍ فِي شَرْحِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ لَمَا وَصَلَ إِلَى أَقَلِّ مَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ وَاحِدٌ ، ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ ، فَيَكُونُ مُحْتَاجًا فِي وُجُودِهِ إِلَى إِيجَادِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ ، وَأَيْضًا ثَبَتَ أَنَّ الْمُمْكِنَ حَالَ بَقَائِهِ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الْمُبْقِي ، وَاللَّهُ تَعَالَى إِلَهُ الْعَالَمِينَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَهَا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ ، وَهُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُبْقِيهَا حَالَ دَوَامِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا . وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ ظَهَرَ عِنْدَكَ شَيْءٌ قَلِيلٌ مِنْ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ أَكْثَرَ إِحَاطَةٍ بِأَحْوَالِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ كَانَ أَكْثَرَ وُقُوفًا عَلَى تَفْسِيرِ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2رَبِّ الْعَالَمِينَ ) .
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ : الْمُرَبِّي عَلَى قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنْ يُرَبِّيَ شَيْئًا لِيَرْبَحَ عَلَيْهِ الْمُرَبِّي ، وَالثَّانِي : أَنْ يُرَبِّيَهُ لِيَرْبَحَ الْمُرَبِّي ، وَتَرْبِيَةُ كُلِّ الْخَلْقِ عَلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُرَبُّونَ غَيْرَهُمْ لِيَرْبَحُوا عَلَيْهِ إِمَّا ثَوَابًا أَوْ ثَنَاءً ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي هُوَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ ، كَمَا قَالَ : خَلَقْتُكُمْ لِتَرْبَحُوا عَلَيَّ لَا لِأَرْبَحَ عَلَيْكُمْ فَهُوَ تَعَالَى يُرَبِّي وَيُحْسِنُ ، وَهُوَ بِخِلَافِ سَائِرِ الْمُرَبِّينَ وَبِخِلَافِ سَائِرِ الْمُحْسِنِينَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28658_29485_29703تَرْبِيَتَهُ تَعَالَى مُخَالِفَةٌ لِتَرْبِيَةِ غَيْرِهِ ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ :
الْأَوَّلُ : مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى يُرَبِّي عَبِيدَهُ لَا لِغَرَضِ نَفْسِهِ بَلْ لِغَرَضِهِمْ ، وَغَيْرُهُ يُرَبُّونَ لِغَرَضِ أَنْفُسِهِمْ لَا لِغَرَضِ غَيْرِهِمْ .
الثَّانِي : أَنَّ غَيْرَهُ إِذَا رَبَّى فَبِقَدْرِ تِلْكَ التَّرْبِيَةِ يَظْهَرُ النُّقْصَانُ فِي خَزَائِنِهِ وَفِي مَالِهِ ، وَهُوَ تَعَالَى مُتَعَالٍ عَنِ النُّقْصَانِ وَالضَّرَرِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=21وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) [ الْحِجْرِ : 21 ] .
الثَّالِثُ : أَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْمُحْسِنِينَ إِذَا أَلَحَّ الْفَقِيرُ عَلَيْهِ أَبْغَضَهُ وَحَرَمَهُ وَمَنَعَهُ ، وَالْحَقُّ تَعَالَى بِخِلَافِ ذَلِكَ ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ :
nindex.php?page=treesubj&link=19769إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ .
الرَّابِعُ : أَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْمُحْسِنِينَ مَا لَمْ يُطْلَبْ مِنْهُ الْإِحْسَانُ لَمْ يُعْطِ ، أَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=29485_29703_32412الْحَقُّ تَعَالَى فَأَنَّهُ يُعْطِي قَبْلَ السُّؤَالِ ، تَرَى أَنَّهُ رَبَّاكَ حَالَ مَا كُنْتَ جَنِينًا فِي رَحِمِ الْأُمِّ ، وَحَالَ مَا كُنْتَ جَاهِلًا غَيْرَ عَاقِلٍ ، لَا تُحْسِنُ أَنْ تَسْأَلَ مِنْهُ ، وَوَقَاكَ وَأَحْسَنَ إِلَيْكَ مَعَ أَنَّكَ مَا سَأَلْتَهُ ، وَمَا كَانَ لَكَ عَقْلٌ وَلَا هِدَايَةٌ .
الْخَامِسُ : أَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْمُحْسِنِينَ يَنْقَطِعُ إِحْسَانُهُ إِمَّا بِسَبَبِ الْفَقْرِ أَوِ الْغَيْبَةِ أَوِ الْمَوْتِ ، وَالْحَقُّ تَعَالَى لَا يَنْقَطِعُ إِحْسَانُهُ الْبَتَّةَ .
السَّادِسُ : أَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْمُحْسِنِينَ يَخْتَصُّ إِحْسَانُهُ بِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ وَلَا يُمْكِنُهُ التَّعْمِيمُ ، أَمَّا الْحَقُّ تَعَالَى فَقَدْ وَصَلَ تَرْبِيَتُهُ وَإِحْسَانُهُ إِلَى الْكُلِّ ، كَمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=156وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) [ الْأَعْرَافِ : 156 ] فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى رَبُّ الْعَالَمِينَ ، وَمُحْسِنٌ إِلَى الْخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ ؛ فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ نَفْسِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ : أَنَّ الَّذِي يُحْمَدُ وَيُمْدَحُ وَيُعَظَّمُ فِي الدُّنْيَا إِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لِأَحَدِ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ :
إِمَّا لِكَوْنِهِ كَامِلًا فِي ذَاتِهِ وَفِي صِفَاتِهِ مُنَزَّهًا عَنْ جَمِيعِ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إِحْسَانٌ إِلَيْكَ .
وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مُحْسِنًا إِلَيْكَ وَمُنْعِمًا عَلَيْكَ .
وَإِمَّا لِأَنَّكَ تَرْجُو وَصُولَ إِحْسَانِهِ إِلَيْكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الزَّمَانِ .
وَإِمَّا لِأَجْلِ أَنَّكَ تَكُونُ خَائِفًا مِنْ قَهْرِهِ وَقُدْرَتِهِ وَكَمَالِ سَطْوَتِهِ ، فَهَذِهِ الْحَالَاتُ هِيَ الْجِهَاتُ الْمُوجِبَةُ لِلتَّعْظِيمِ ، فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ : إِنْ كُنْتُمْ مِمَّنْ يُعَظِّمُونَ الْكَمَالَ الذَّاتِيَّ فَاحْمَدُونِي فَإِنِّي إِلَهُ الْعَالَمِينَ ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَإِنْ كُنْتُمْ مِمَّنْ تُعَظِّمُونَ الْإِحْسَانَ فَأَنَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ، وَإِنْ كُنْتُمْ تُعَظِّمُونَ لِلطَّمَعِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَأَنَا
[ ص: 188 ] الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ، وَإِنْ كُنْتُمْ تُعَظِّمُونَ لِلْخَوْفِ فَأَنَا مَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ .
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ : وُجُوهُ
nindex.php?page=treesubj&link=29485_29703_32688تَرْبِيَةِ اللَّهِ لِلْعَبْدِ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْهَا أَمْثِلَةً :
الْمِثَالُ الْأَوَّلُ : لَمَّا وَقَعَتْ قَطْرَةُ النُّطْفَةِ مِنْ صُلْبِ الْأَبِ إِلَى رَحِمِ الْأُمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ أَنَّهَا صَارَتْ عَلَقَةً أَوَّلًا ، ثُمَّ مُضْغَةً ثَانِيًا ، ثُمَّ تَوَلَّدَتْ مِنْهَا أَعْضَاءٌ مُخْتَلِفَةٌ مِثْلَ الْعِظَامِ وَالْغَضَارِيفِ وَالرِّبَاطَاتِ وَالْأَوْتَارِ وَالْأَوْرِدَةِ وَالشَّرَايِينِ ، ثُمَّ اتَّصَلَ الْبَعْضُ بِالْبَعْضِ ، ثُمَّ حَصَلَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا نَوْعٌ خَاصٌّ مِنْ أَنْوَاعِ الْقُوَى ، فَحَصَلَتِ الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ فِي الْعَيْنِ ، وَالسَّامِعَةُ فِي الْأُذُنِ ، وَالنَّاطِقَةُ فِي اللِّسَانِ ، فَسُبْحَانَ مَنْ أَسْمَعَ بِعَظْمٍ ، وَبَصَّرَ بِشَحْمٍ ، وَأَنْطَقَ بِلَحْمٍ . وَاعْلَمْ أَنَّ كِتَابَ التَّشْرِيحِ لِبَدَنِ الْإِنْسَانِ مَشْهُورٌ ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَرْبِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ .
الْمَثَّالُ الثَّانِي : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=19784_19786الْحَبَّةَ الْوَاحِدَةَ إِذَا وَقَعَتْ فِي الْأَرْضِ فَإِذَا وَصَلَتْ نَدَاوَةُ الْأَرْضِ إِلَيْهَا انْتَفَخَتْ وَلَا تَنْشَقُّ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْجَوَانِبِ إِلَّا مِنْ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلِهَا ، مَعَ أَنَّ الِانْتِفَاخَ حَاصِلٌ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ : أَمَّا الشِّقُّ الْأَعْلَى فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْجُزْءُ الصَّاعِدُ مِنَ الشَّجَرَةِ ؛ وَأَمَّا الشِّقُّ الْأَسْفَلُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْجُزْءُ الْغَائِصُ فِي الْأَرْضِ ، وَهُوَ عُرُوقُ الشَّجَرَةِ ، فَأَمَّا الْجُزْءُ الصَّاعِدُ فَبَعْدَ صُعُودِهِ يَحْصُلُ لَهُ سَاقٌ ، ثُمَّ يَنْفَصِلُ مِنْ ذَلِكَ السَّاقِ أَغْصَانٌ كَثِيرَةٌ ، ثُمَّ يَظْهَرُ عَلَى تِلْكَ الْأَغْصَانِ الْأَنْوَارُ أَوَّلًا ، ثُمَّ الثِّمَارُ ثَانِيًا ، وَيَحْصُلُ لِتِلْكَ الثِّمَارِ أَجْزَاءٌ مُخْتَلِفَةٌ بِالْكَثَافَةِ وَاللَّطَافَةِ ، وَهِيَ الْقُشُورُ ثُمَّ اللُّبُوبُ ثُمَّ الْأَدْهَانُ ، وَأَمَّا الْجُزْءُ الْغَائِصُ مِنَ الشَّجَرَةِ فَإِنَّ تِلْكَ الْعُرُوقَ تَنْتَهِي إِلَى أَطْرَافِهَا ؛ وَتِلْكَ الْأَطْرَافُ تَكُونُ فِي اللَّطَافَةِ كَأَنَّهَا مِيَاهٌ مُنْعَقِدَةٌ ، وَمَعَ غَايَةِ لَطَافَتِهَا فَإِنَّهَا تَغُوصُ فِي الْأَرْضِ الصُّلْبَةِ الْخَشِنَةِ ، وَأَوْدَعَ اللَّهُ فِيهَا قُوًى جَاذِبَةً تَجْذِبُ الْأَجْزَاءَ اللَّطِيفَةَ مِنَ الطِّينِ إِلَى نَفْسِهَا ، وَالْحِكْمَةُ فِي كُلِّ هَذِهِ التَّدْبِيرَاتِ تَحْصِيلُ مَا يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إِلَيْهِ مِنَ الْغِذَاءِ وَالْأُدَامِ وَالْفَوَاكِهِ وَالْأَشْرِبَةِ وَالْأَدْوِيَةِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=25أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=26ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ) [ عَبَسَ : 25 ، 26 ] الْآيَاتِ . الْمِثَالُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ وَضَعَ الْأَفْلَاكَ وَالْكَوَاكِبَ بِحَيْثُ صَارَتْ أَسْبَابًا لِحُصُولِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ ، فَخَلَقَ اللَّيْلَ لِيَكُونَ سَبَبًا لِلرَّاحَةِ وَالسُّكُونِ ، وَخَلَقَ النَّهَارَ لِيَكُونَ سَبَبًا لِلْمَعَاشِ وَالْحَرَكَةِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=5هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ) [ يُونُسَ : 5 ] ، مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=97وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) [ الْأَنْعَامِ : 97 ] وَاقْرَأْ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=6أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=7وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ) - إِلَى آخِرِ الْآيَةِ [ النَّبَأِ : 6 ، 7 ] ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِذَا تَأَمَّلْتَ فِي عَجَائِبِ أَحْوَالِ الْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ ، وَآثَارِ حِكْمَةِ الرَّحْمَنِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ ، قَضَى صَرِيحُ عَقْلِكَ بِأَنَّ أَسْبَابَ تَرْبِيَةِ اللَّهِ كَثِيرَةٌ ، وَدَلَائِلَ رَحْمَتِهِ لَائِحَةٌ ظَاهِرَةٌ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَظْهَرُ لَكَ قَطْرَةٌ مِنْ بِحَارِ أَسْرَارِ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ :
nindex.php?page=treesubj&link=33144_28972أَضَافَ الْحَمْدَ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ تَعَالَى : ( nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الْحَمْدُ لِلَّهِ ) ، ثُمَّ أَضَافَ نَفْسَهُ إِلَى الْعَالَمِينَ ، وَالتَّقْدِيرُ : إِنِّي أُحِبُّ الْحَمْدَ ، فَنِسْبَتُهُ إِلَى نَفْسِي بِكَوْنِهِ مِلْكًا ، ثُمَّ لَمَّا ذَكَرْتُ نَفْسِي عَرَفْتُ نَفْسِي بِكَوْنِي رَبًّا لِلْعَالَمِينَ ، وَمَنْ عَرَفَ ذَاتًا بِصِفَةٍ فَإِنَّهُ يُحَاوِلُ ذِكْرَ أَحْسَنِ الصِّفَاتِ وَأَكْمَلِهَا ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ رَبًّا لِلْعَالَمِينَ أَكْمَلُ الصِّفَاتِ ، وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ أَكْمَلَ الْمَرَاتِبِ أَنْ يَكُونَ تَامًّا ، وَفَوْقَ التَّمَامِ ، فَقَوْلُنَا : اللَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ فِي ذَاتِهِ وَبِذَاتِهِ وَهُوَ التَّمَامُ ، وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2رَبِّ الْعَالَمِينَ ) مَعْنَاهُ أَنَّ وُجُودَ كُلِّ مَا سِوَاهُ فَائِضٌ عَنْ تَرْبِيَتِهِ وَإِحْسَانِهِ وَجُودِهِ ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِنَا أَنَّهُ فَوْقَ التَّمَامِ .
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ : أَنَّهُ يَمْلِكُ عِبَادًا غَيْرَكَ كَمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=31وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ) [ الْمُدَّثِّرِ : 31 ] وَأَنْتَ لَيْسَ لَكَ رَبٌّ سِوَاهُ ، ثُمَّ إِنَّهُ يُرَبِّيكَ كَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَبْدٌ سِوَاكَ وَأَنْتَ تَخْدُمُهُ كَأَنَّ لَكَ رَبًّا غَيْرَهُ ، فَمَا أَحْسَنَ هَذِهِ
[ ص: 189 ] التَّرْبِيَةَ ، أَلَيْسَ أَنَّهُ يَحْفَظُكَ فِي النَّهَارِ عَنِ الْآفَاتِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ ، وَبِاللَّيْلِ عَنِ الْمُخَافَاتِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ ؟ وَاعْلَمْ أَنَّ الْحُرَّاسَ يَحْرُسُونَ الْمَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ ، فَهَلْ يَحْرُسُونَهُ عَنْ لَدْغِ الْحَشَرَاتِ ؟ وَهَلْ يَحْرُسُونَهُ عَنْ أَنْ تَنْزِلَ بِهِ الْبَلِيَّاتُ ؟ أَمَّا الْحَقُّ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَحْرُسُهُ مِنَ الْآفَاتِ ، وَيَصُونُهُ مِنَ الْمُخَافَاتِ ؛ بَعْدَ أَنْ كَانَ قَدْ زَجَّ أَوَّلَ اللَّيْلِ فِي أَنْوَاعِ الْمَحْظُورَاتِ وَأَقْسَامِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُنْكَرَاتِ ، فَمَا أَكْبَرَ هَذِهِ التَّرْبِيَةَ وَمَا أَحْسَنَهَا ، أَلَيْسَ مِنَ التَّرْبِيَةِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
الْآدَمِيُّ بُنْيَانُ الرَّبِّ ، مَلْعُونٌ مَنْ هَدَمَ بُنْيَانَ الرَّبِّ ؛ فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=42قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ ) [ الْأَنْبِيَاءِ : 42 ] مَا ذَاكَ إِلَّا الْمَلِكُ الْجَبَّارُ ، وَالْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ، وَمُقَلِّبُ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ ، وَالْمُطَّلِعُ عَلَى الضَّمَائِرِ وَالْأَسْرَارِ .
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ : قَالَتِ
الْقَدَرِيَّةُ : إِنَّمَا يَكُونُ تَعَالَى رَبًّا لِلْعَالَمِينَ وَمُرَبِّيًا لَهُمْ لَوْ كَانَ مُحْسِنًا إِلَيْهِمْ دَافِعًا لِلْمَضَارِّ عَنْهُمْ ، أَمَّا إِذَا خَلَقَ الْكُفْرَ فِي الْكَافِرِ ثُمَّ يُعَذِّبُهُ عَلَيْهِ ؛ وَيَأْمُرُ بِالْإِيمَانِ ثُمَّ يَمْنَعُهُ مِنْهُ ، لَمْ يَكُنْ رَبًّا وَلَا مُرَبِّيًا ، بَلْ كَانَ ضَارًّا وَمُؤْذِيًا ، وَقَالَتِ
الْجَبْرِيَّةُ : إِنَّمَا سَيَكُونُ رَبًّا وَمُرَبِّيًا لَوْ كَانَتِ النِّعْمَةُ صَادِرَةٌ مِنْهُ وَالْأَلْطَافُ فَائِضَةٌ مِنْ رَحْمَتِهِ ، وَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ أَعْظَمَ النِّعَمِ وَأَجَلَّهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُصُولُهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِيَكُونَ رَبًّا لِلْعَالَمِينَ إِلَيْهِمْ مُحْسِنًا بِخَلْقِ الْإِيمَانِ فِيهِمْ .
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْلُنَا " اللَّهُ " أَشْرَفُ مِنْ قَوْلِنَا " رَبِّ " عَلَى مَا بَيَّنَّا ذَلِكَ بِالْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ فِي تَفْسِيرِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ، ثُمَّ إِنَّ الدَّاعِيَ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ يَقُولُ : يَا رَبِّ ، يَا رَبِّ ، وَالسَّبَبُ فِيهِ النُّكَتُ وَالْوُجُوهُ الْمَذْكُورَةُ فِي تَفْسِيرِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا نُعِيدُهَا .