وأما قوله تعالى : ( ويرسل عليكم حفظة ) فالمراد أن وهؤلاء الحفظة هم المشار إليهم بقوله تعالى : ( من جملة قهره لعباده إرسال الحفظة عليهم له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) [ الرعد : 11 ] وقوله : ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) [ ق : 18 ] وقوله : ( وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين ) [ الانفطار : 10 ، 11 ] واتفقوا على أن المقصود من حضور هؤلاء الحفظة ضبط الأعمال . ثم اختلفوا فمنهم من يقول : إنهم يكتبون الطاعات والمعاصي والمباحات بأسرها بدليل قوله تعالى : ( مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ) [ الكهف : 49 ] وعن - رضي الله عنهما - أن ابن عباس ، فإذا تكلم الإنسان بحسنة كتبها من على اليمين ، وإذا تكلم بسيئة قال من على اليمين لمن على اليسار : انتظره لعله يتوب منها ، فإن لم يتب كتب عليه . والقول الأول أقوى ؛ لأن قوله تعالى : ( مع كل إنسان ملكين : أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره ويرسل عليكم حفظة ) يفيد حفظة الكل من غير تخصيص .
والبحث الثاني : أن ظاهر هذه الآيات يدل على أن اطلاع هؤلاء الحفظة على الأقوال والأفعال ، أما على صفات القلوب وهي العلم والجهل فليس في هذه الآيات ما يدل على اطلاعهم عليها . أما في الأقوال ، فلقوله تعالى : ( من قول إلا لديه رقيب عتيد ) [ق : 18] وأما في الأعمال فلقوله تعالى : ( وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون ) [ الانفطار : 10- 12 ] فأما الإيمان والكفر والإخلاص والإشراك فلم يدل الدليل على اطلاع الملائكة عليها .
البحث الثالث : ذكروا في آدم وجوها : فائدة جعل الملائكة موكلين على بني
الأول : أن المكلف إذا علم أن الملائكة موكلون به يحصون عليه أعماله ويكتبونها في صحائف تعرض على رءوس الأشهاد في مواقف القيامة كان ذلك أزجر له عن القبائح .
الثاني : يحتمل في الكتابة أن يكون الفائدة فيها أن توزن تلك الصحائف يوم القيامة ؛ لأن وزن الأعمال غير ممكن ، أما وزن الصحائف فممكن .
الثالث : يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد . ويجب علينا ، فهذا حاصل ما قاله أهل الشريعة . وأما أهل الحكمة فقد اختلفت أقوالهم في هذا الباب على وجوه : الإيمان بكل ما ورد به الشرع سواء عقلنا الوجه فيه أو لم نعقل
الوجه الأول : قال المتأخرون منهم : ( وهو القاهر فوق عباده ) ومن جملة ذلك القهر أنه خلط الطبائع المتضادة ومزج بين العناصر المتنافرة ، فلما حصل بينها امتزاج استعد ذلك الممتزج بسبب ذلك الامتزاج [ ص: 14 ] لقبول النفس المدبرة والقوى الحسية والحركية والنطقية ، فقالوا : المراد من قوله : ( ويرسل عليكم حفظة ) تلك النفوس والقوى ، فإنها هي التي تحفظ تلك الطبائع المقهورة على امتزاجاتها .
والوجه الثاني : وهو قول بعض القدماء أن هذه النفوس البشرية والأرواح الإنسانية مختلفة بجواهرها متباينة بماهياتها ، فبعضها خيرة وبعضها شريرة ، وكذا القول في الذكاء والبلادة والحرية والنذالة والشرف والدناءة وغيرها من الصفات ، ولكل طائفة من هذه الأرواح السفلية روح سماوي هو لها كالأب الشفيق والسيد الرحيم يعينها على مهماتها في يقظاتها ومناماتها تارة على سبيل الرؤيا ، وأخرى على سبيل الإلهامات فالأرواح الشريرة لها مبادئ من عالم الأفلاك ، وكذا الأرواح الخيرة ، وتلك المبادئ تسمى في مصطلحهم بالطباع التام يعني أن تلك الأرواح الفلكية في تلك الطبائع والأخلاق تامة كاملة ، وهذه الأرواح السفلية المتولدة منها أضعف منها ؛ لأن المعلول في كل باب أضعف من علته ولأصحاب الطلسمات والعزائم الروحانية في هذا الباب كلام كثير .
والقول الثالث : النفس المتعلقة بهذا الجسد . لا شك في أن النفوس المفارقة عن الأجساد لما كانت مساوية لهذه في الطبيعة والماهية فتلك النفوس المفارقة تميل إلى هذه النفس بسبب ما بينهما من المشاكلة والموافقة ، وهي أيضا تتعلق بوجه ما بهذا البدن وتصير معاونة لهذه النفس على مقتضيات طبيعتها ، فثبت بهذه الوجوه الثلاثة أن الذي جاءت الشريعة الحقة به ليس للفلاسفة أن يمتنعوا عنها ؛ لأن كلهم قد أقروا بما يقرب منه ، وإذا كان الأمر كذلك كان إصرار الجهال منهم على التكذيب باطلا والله أعلم .