( وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون )
قوله تعالى : ( وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون )
اعلم أنا ذكرنا في هذا الكتاب أن . وأنه تعالى لما حكى عن مدار أمر القرآن على إثبات التوحيد والنبوة والمعاد إبراهيم - عليه السلام - أنه ذكر دليل التوحيد ، وإبطال الشرك ، وقرر تعالى ذلك الدليل بالوجوه الواضحة شرع بعده في تقرير أمر النبوة ، فقال : ( وما قدروا الله حق قدره ) حيث أنكروا النبوة والرسالة ، فهذا بيان وجه نظم هذه الآيات وأنه في غاية الحسن . وفي الآية مسائل :
[ ص: 60 ] المسألة الأولى : في تفسير قوله تعالى : ( ما قدروا الله حق قدره ) وجوه :
قال : ما عظموا الله حق تعظيمه . وروي عنه أيضا أنه قال معناه : ما آمنوا أن الله على كل شيء قدير . ابن عباس
وقال : ما وصفوه حق صفته . وقال أبو العالية الأخفش : ما عرفوه حق معرفته ، وحقق الواحدي - رحمه الله - ذلك ، فقال يقال : قدر الشيء إذا سبره وحرره ، وأراد أن يعلم مقداره يقدره بالضم قدرا ، ومنه قوله - عليه السلام - : أي فاطلبوا أن تعرفوه هذا أصله في اللغة ، ثم قال يقال لمن عرف شيئا هو يقدر قدره ، وإذا لم يعرفه بصفاته أنه لا يقدر قدره ، فقوله : ( وإن غم عليكم فاقدروا له وما قدروا الله حق قدره ) صحيح في كل المعاني المذكورة .
المسألة الثانية : أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم ( ما قدروا الله حق قدره ) بين السبب فيه ، وذلك هو قولهم ما أنزل الله على بشر من شيء .
واعلم أن ، وتقريره من وجوه : كل من أنكر النبوة والرسالة فهو في الحقيقة ما عرف الله حق معرفته
الأول : أن منكر البعثة والرسالة ، إما أن يقول : إنه تعالى ما كلف أحدا من الخلق تكليفا أصلا ، أو يقول : إنه تعالى كلفهم التكاليف ، والأول باطل ؛ لأن ذلك يقتضي أنه تعالى أباح لهم جميع المنكرات والقبائح نحو شتم الله ، ووصفه بما لا يليق به ، والاستخفاف بالأنبياء والرسل وأهل الدين ، والإعراض عن شكر النعم ، ومقابلة الإنعام بالإساءة . ومعلوم أن كل ذلك باطل . وإما أن يسلم أنه تعالى كلف الخلق بالأوامر والنواهي ، فههنا لا بد من مبلغ وشارع ومبين ، وما ذاك إلا الرسول .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : العقل كاف في إيجاب الواجبات واجتناب المقبحات ؟
قلنا : هب أن الأمر كما قلتم ، إلا أنه لا يمتنع تأكيد التعريف العقلي بالتعريفات المشروعة على ألسنة الأنبياء والرسل - عليهم السلام - . فثبت أن كل من منع البعثة والرسالة فقد طعن في حكمة الله تعالى ، وكان ذلك جهلا بصفة الإلهية ، وحينئذ يصدق في حقه قوله تعالى : ( وما قدروا الله حق قدره ) .
الوجه الثاني في تقرير هذا المعنى : أن من الناس من يقول : إنه يمتنع بعثة الأنبياء والرسل ؛ لأنه يمتنع إظهار المعجزة على وفق دعواه تصديقا له ، والقائلون بهذا القول لهم مقامان :
المقام الأول : أن يقولوا : إنه ليس في الإمكان خرق العادات ولا إيجاد شيء على خلاف ما جرت به العادة .
والمقام الثاني : الذين يسلمون إمكان ذلك . إلا أنهم يقولون : إن بتقدير حصول هذه الأفعال الخارقة للعادات لا دلالة لها على صدق مدعي الرسالة ، وكلا الوجهين يوجب القدح في كمال قدرة الله تعالى .
أما المقام الأول : فهو أنه ثبت أن الأجسام متماثلة . وثبت أن ما يحتمله الشيء وجب أن يحتمله مثله ، وإذا كان كذلك كان جرم الشمس والقمر قابلا للتمزق والتفرق .
فإن قلنا : إن الإله غير قادر عليه كان ذلك وصفا له بالعجز ونقصان القدرة ، وحينئذ يصدق في حق هذا القائل : أنه ما قدر الله حق قدره .
وإن قلنا : إنه تعالى قادر عليه ، فحينئذ لا يمتنع عقلا انشقاق القمر ، ولا حصول سائر المعجزات .
[ ص: 61 ] وأما المقام الثاني : وهو أن حدوث هذه الأفعال الخارقة للعادة عند دعوى مدعي النبوة تدل على صدقهم ، فهذا أيضا ظاهر على ما هو مقرر في كتب الأصول . فثبت أن كل من أنكر إمكان البعثة والرسالة ، فقد وصف الله بالعجز ونقصان القدرة ، وكل من قال ذلك فهو ما قدر الله حق قدره .
والوجه الثالث : أنه لما ثبت حدوث العالم ، فنقول : حدوثه يدل على أن إله العالم قادر عالم حكيم ، وأن الخلق كلهم عبيده وهو مالك لهم على الإطلاق ، وملك لهم على الإطلاق ، والملك المطاع يجب أن يكون له أمر ونهي وتكليف على عباده ، وأن يكون له وعد على الطاعة ، ووعيد على المعصية ، وذلك لا يتم ولا يكمل إلا بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، فكل من أنكر ذلك فقد طعن في كونه تعالى ملكا مطاعا ، ومن اعتقد ذلك فهو ما قدر الله حق قدره ، فثبت أن . كل من قال : ما أنزل الله على بشر من شيء فهو ما قدر الله حق قدره