(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون ) .
قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون ) .
اعلم أن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94ولقد جئتمونا فرادى ) يحتمل وجهين :
الأول : أن يكون هذا معطوفا على قول الملائكة : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=93أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون ) فبين تعالى أنهم كما يقولون ذلك على وجه التوبيخ ، كذلك يقولون حكاية عن الله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94ولقد جئتمونا فرادى ) فيكون الكلام أجمع حكاية عنهم ، وأنهم يوردون ذلك على هؤلاء الكفار ، وعلى هذا التقدير ، فيحتمل أن يكون قائل هذا القول الملائكة الموكلين بقبض أرواحهم ، ويحتمل أن يكون القائل هم الملائكة الموكلون بعقابهم .
والقول الثاني : أن قائل هذا القول هو الله تعالى ، ومنشأ هذا الاختلاف أن
nindex.php?page=treesubj&link=30437_30440_28766الله تعالى هل يتكلم مع الكفار أو لا ؟ فقوله تعالى في صفة الكفار : ( ولا يكلمهم ) يوجب أن لا يتكلم معهم ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=92فوربك لنسألنهم أجمعين ) [ الحجر : 92 ] وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=6فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ) [ الأعراف : 6 ] يقتضي أن يكون تعالى يتكلم معهم ، فلهذا السبب وقع هذا الاختلاف ، والقول الأول أقوى ؛ لأن هذه الآية معطوفة على ما قبلها ، والعطف يوجب التشريك .
المسألة الثانية : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94فرادى ) لفظ جمع وفي واحده قولان :
قال
nindex.php?page=showalam&ids=13436ابن قتيبة : فرادى جمع فردان ، مثل سكارى وسكران ، وكسالى وكسلان .
وقال غيره : فرادى جمع فريد ، مثل ردافى ورديف .
وقال
الفراء : فرادى جمع واحده فرد وفردة وفريد وفردان .
إذا عرفت هذا فقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94ولقد جئتمونا فرادى ) المراد منه التقريع والتوبيخ ، وذلك لأنهم صرفوا جدهم وجهدهم في الدنيا إلى تحصيل أمرين :
أحدهما : تحصيل المال والجاه .
والثاني : أنهم
nindex.php?page=treesubj&link=30532_30539_30437_28766عبدوا الأصنام لاعتقادهم أنها تكون شفعاء لهم عند الله ، ثم إنهم لما وردوا محفل القيامة لم يبق معهم شيء من تلك الأموال ، ولم يجدوا من تلك الأصنام شفاعة لهم عند الله تعالى فبقوا فرادى عن كل ما حصلوه في الدنيا وعولوا عليه ، بخلاف أهل الإيمان فإنهم صرفوا عمرهم إلى تحصيل المعارف الحقة والأعمال الصالحة ، وتلك
[ ص: 72 ] المعارف والأعمال الصالحة بقيت معهم في قبورهم ، وحضرت معهم في مشهد القيامة ، فهم في الحقيقة ما حضروا فرادى ، بل حضروا مع الزاد ليوم المعاد .
ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94لقد تقطع بينكم ) وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ
نافع وحفص عن
عاصم والكسائي : ( بينكم ) بالنصب ، والباقون بالرفع ، قال
الزجاج : الرفع أجود ، ومعناه : لقد تقطع وصلكم ، والنصب جائز ، والمعنى : لقد تقطع ما كنتم فيه من الشركة بينكم .
قال
أبو علي : هذا الاسم يستعمل على ضربين :
أحدهما : أن يكون اسما منصرفا كالافتراق ، والأجود أن يكون ظرفا ، والمرفوع في قراءة من قرأ : ( بينكم ) هو الذي كان ظرفا ثم استعمل اسما ، والدليل على جواز كونه اسما قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=5ومن بيننا وبينك حجاب ) [ فصلت : 5 ] و (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=78هذا فراق بيني وبينك ) [ الكهف : 78 ] فلما استعمل اسما في هذه المواضع جاز أن يسند إليه الفعل الذي هو " تقطع " في قول من رفع . قال : ويدل على أن هذا المرفوع هو الذي استعمل ظرفا أنه لا يخلو من أن يكون الذي هو ظرف اتسع فيه ، أو يكون الذي هو مصدر ؛ والقسم الثاني باطل ، وإلا لصار تقدير الآية : لقد تقطع افتراقكم ؛ وهذا ضد المراد ؛ لأن المراد من الآية ، لقد تقطع وصلكم ، وما كنتم سالفون عليه .
فإن قيل : كيف جاز أن يكون بمعنى الوصل مع أن أصله الافتراق والتباين ؟ .
قلنا : هذا اللفظ إنما يستعمل في الشيئين اللذين بينهما مشاركة ومواصلة من بعض الوجوه ، كقولهم بيني وبينه شركة ، وبيني وبينه رحم ، فلهذا السبب حسن استعمال هذا اللفظ في معنى الوصلة فقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94لقد تقطع بينكم ) معناه لقد تقطع وصلكم . أما من قرأ " لقد تقطع بينكم " بالنصب فوجهه أنه أضمر الفاعل ، والتقدير : لقد تقطع وصلكم بينكم ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه : إنهم قالوا : إذا كان غدا فأتني . والتقدير : إذا كان الرجاء أو البلاء غدا فأتني ، فأضمر لدلالة الحال . فكذا هاهنا . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12590ابن الأنباري : التقدير : لقد تقطع ما بينكم . فحذفت لوضوح معناها .
المسألة الثانية : اعلم أن هذه الآية مشتملة على قانون شريف في
nindex.php?page=treesubj&link=28766معرفة أحوال القيامة :
فأولها : أن النفس الإنسانية إنما تعلقت بهذا الجسد آلة له في اكتساب المعارف الحقة والأخلاق الفاضلة ، فإذا فارقت النفس الجسد ولم يحصل هذين المطلوبين البتة ، عظمت حسراته ، وقويت آفاته ، حيث وجد مثل هذه الآلة الشريفة التي يمكن اكتساب السعادة الأبدية بها ، ثم إنه ضيعها وأبطلها ، ولم ينتفع بها البتة ، وهذا هو المراد من قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة )
وثانيها : أن هذه النفس مع أنها لم تكتسب بهذه الآلة الجسدانية سعادة روحانية ، وكمالا روحانيا ، فقد عملت عملا آخر أردأ من الأول ، وذلك لأنها طول العمر كانت في الرغبة في تحصيل المال والجاه ، وفي تقوية العشق عليها ، وتأكيد المحبة ، وفي تحصيلها . والإنسان في الحقيقة متوجه من العالم الجسماني إلى العالم الروحاني ، فهذا المسكين قلب القضية ، وعكس القضية ، وأخذ يتوجه من المقصد الروحاني إلى العالم الجسماني ، ونسي مقصده واغتر باللذات الجسمانية ، فلما مات انقلبت القضية شاء أم أبى ، توجه من العالم الجسماني إلى العالم الروحاني ، فبقيت الأموال التي اكتسبها ، وأفنى عمره في تحصيلها وراء ظهره ، والشيء الذي يبقى وراء ظهر الإنسان لا يمكنه أن ينتفع به ، وربما بقي
[ ص: 73 ] منقطع المنفعة ، معوج الرقبة ، معوج الرأس بسبب التفاته إليها مع العجز عن الانتفاع بها ، وذلك يوجب نهاية الخيبة والغم والحسرة ، وهو المراد من قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم ) وهذا يدل على أن كل مال يكتسبه الإنسان ولم يصرفه في مصارف الخيرات ، فصفته هذه التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية ، أما إذا صرفها إلى الجهات الموجبة للتعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله ، فما ترك تلك الأموال وراء ظهره ، ولكنه قدمها تلقاء وجهه ، كما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=110وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ) [ البقرة : 110 ] .
وثالثها : أن أولئك المساكين أتعبوا أنفسهم في نصرة الأديان الباطلة ، والمذاهب الفاسدة وظنوا أنهم ينتفعون بها عند الورود في محفل القيامة ، فإذا وردوه وشاهدوا ما في تلك المذاهب من العذاب الشديد والعقاب الدائم ، حصلت فيه جهات كثيرة من العذاب ؛ منها عذاب الحسرة والندامة : وهو أنه كيف أنفق ماله في تحمل العناء الشديد والبلاء العظيم في تحصيل ما لم يحصل له منه إلا العذاب والعناء ، ومنها عذاب الخجلة : وهو أنه ظهر له أن كل ما كان يعتقده في دار الدنيا كان محض الجهالة وصريح الضلالة ، ومنها حصول اليأس الشديد مع الطمع العظيم ، ولا شك أن مجموع هذه الأحوال يوجب العذاب الشديد والآلام العظيمة الروحانية ، وهو المراد من قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ) .
ورابعها : أنه لما بدا له أنه فاته الأمر الذي به يقدر على اكتساب الخيرات ، وحصل عنده الأمر الذي يوجب حصول المضرات ، فإذن بقي له رجاء في التدارك من بعض الوجوه فهاهنا يحف ذلك الألم ويضعف ذلك الحزن . أما إذا حصل الجزم واليقين بأن التدارك ممتنع وجبر ذلك النقصان متعذر ، فهاهنا يعظم الحزن ويقوى البلاء جدا ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94لقد تقطع بينكم ) والمعنى أن الوصلة الحاصلة بين النفس والجسد قد تقطعت ولا سبيل إلى تحصيلها مرة أخرى . وعند الوقوف على حقائق هذه المراتب يظهر أنه لا بيان فوق هذا البيان في شرح
nindex.php?page=treesubj&link=28766_30351_30438_30539_30437أحوال هؤلاء الضالين .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) .
قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) .
اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى ) يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ :
الْأَوَّلُ : أَنْ يَكُونَ هَذَا مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=93أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ ) فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ كَمَا يَقُولُونَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّوْبِيخِ ، كَذَلِكَ يَقُولُونَ حِكَايَةً عَنِ اللَّهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى ) فَيَكُونُ الْكَلَامُ أَجْمَعُ حِكَايَةً عَنْهُمْ ، وَأَنَّهُمْ يُورِدُونَ ذَلِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ الْمَلَائِكَةَ الْمُوَكَّلِينَ بِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ هُمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِعِقَابِهِمْ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَمَنْشَأُ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30437_30440_28766اللَّهَ تَعَالَى هَلْ يَتَكَلَّمُ مَعَ الْكُفَّارِ أَوْ لَا ؟ فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْكُفَّارِ : ( وَلَا يُكَلِّمُهُمُ ) يُوجِبُ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ مَعَهُمْ ، وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=92فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) [ الْحِجْرِ : 92 ] وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=6فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) [ الْأَعْرَافِ : 6 ] يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ تَعَالَى يَتَكَلَّمُ مَعَهُمْ ، فَلِهَذَا السَّبَبِ وَقَعَ هَذَا الِاخْتِلَافُ ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْوَى ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا ، وَالْعَطْفُ يُوجِبُ التَّشْرِيكَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94فُرَادَى ) لَفْظُ جَمْعٍ وَفِي وَاحِدِهِ قَوْلَانِ :
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13436ابْنُ قُتَيْبَةَ : فُرَادَى جَمْعُ فَرْدَانَ ، مِثْلُ سُكَارَى وَسَكْرَانَ ، وَكُسَالَى وَكَسْلَانَ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : فُرَادَى جَمْعُ فَرِيدٍ ، مِثْلُ رُدَافَى وَرَدِيفٍ .
وَقَالَ
الْفَرَّاءُ : فُرَادَى جَمْعٌ وَاحِدُهُ فَرْدٌ وَفَرْدَةٌ وَفَرِيدٌ وَفَرْدَانُ .
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى ) الْمُرَادُ مِنْهُ التَّقْرِيعُ وَالتَّوْبِيخُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ صَرَفُوا جَدَّهُمْ وَجُهْدَهُمْ فِي الدُّنْيَا إِلَى تَحْصِيلِ أَمْرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : تَحْصِيلُ الْمَالِ وَالْجَاهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ
nindex.php?page=treesubj&link=30532_30539_30437_28766عَبَدُوا الْأَصْنَامَ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهَا تَكُونُ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمَّا وَرَدُوا مَحْفِلَ الْقِيَامَةِ لَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْأَمْوَالِ ، وَلَمْ يَجِدُوا مِنْ تِلْكَ الْأَصْنَامِ شَفَاعَةً لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَبَقُوا فُرَادَى عَنْ كُلِّ مَا حَصَّلُوهُ فِي الدُّنْيَا وَعَوَّلُوا عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُمْ صَرَفُوا عُمْرَهُمْ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَعَارِفِ الْحَقَّةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، وَتِلْكَ
[ ص: 72 ] الْمَعَارِفُ وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ بَقِيَتْ مَعَهُمْ فِي قُبُورِهِمْ ، وَحَضَرَتْ مَعَهُمْ فِي مَشْهَدِ الْقِيَامَةِ ، فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مَا حَضَرُوا فُرَادَى ، بَلْ حَضَرُوا مَعَ الزَّادِ لِيَوْمِ الْمَعَادِ .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَرَأَ
نَافِعٌ وَحَفْصٌ عَنْ
عَاصِمٍ وَالْكِسَائِيِّ : ( بَيْنَكُمْ ) بِالنَّصْبِ ، وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ ، قَالَ
الزَّجَّاجُ : الرَّفْعُ أَجْوَدُ ، وَمَعْنَاهُ : لَقَدْ تَقَطَّعَ وَصْلُكُمْ ، وَالنَّصْبُ جَائِزٌ ، وَالْمَعْنَى : لَقَدْ تَقَطَّعَ مَا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ الشَّرِكَةِ بَيْنَكُمْ .
قَالَ
أَبُو عَلِيٍّ : هَذَا الِاسْمُ يُسْتَعْمَلُ عَلَى ضَرْبَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ اسْمًا مُنْصَرِفًا كَالِافْتِرَاقِ ، وَالْأَجْوَدُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا ، وَالْمَرْفُوعُ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ : ( بَيْنَكُمْ ) هُوَ الَّذِي كَانَ ظَرْفًا ثُمَّ اسْتُعْمِلَ اسْمًا ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ كَوْنِهِ اسْمًا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=5وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ) [ فُصِّلَتْ : 5 ] وَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=78هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ) [ الْكَهْفِ : 78 ] فَلَمَّا اسْتُعْمِلَ اسْمًا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ جَازَ أَنْ يُسْنَدَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ " تَقَطَّعَ " فِي قَوْلِ مَنْ رَفَعَ . قَالَ : وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَرْفُوعَ هُوَ الَّذِي اسْتُعْمِلَ ظَرْفًا أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الَّذِي هُوَ ظَرْفٌ اتَّسَعَ فِيهِ ، أَوْ يَكُونَ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ ؛ وَالْقِسْمُ الثَّانِي بَاطِلٌ ، وَإِلَّا لَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ : لَقَدْ تَقَطَّعَ افْتِرَاقُكُمْ ؛ وَهَذَا ضِدُّ الْمُرَادِ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ ، لَقَدْ تَقَطَّعَ وَصْلُكُمْ ، وَمَا كُنْتُمْ سَالِفُونَ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ جَازَ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْوَصْلِ مَعَ أَنَّ أَصْلَهُ الِافْتِرَاقُ وَالتَّبَايُنُ ؟ .
قُلْنَا : هَذَا اللَّفْظُ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّيْئَيْنِ اللَّذَيْنِ بَيْنَهُمَا مُشَارَكَةٌ وَمُوَاصَلَةٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ ، كَقَوْلِهِمْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَرِكَةٌ ، وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ رَحِمٌ ، فَلِهَذَا السَّبَبِ حَسُنَ اسْتِعْمَالُ هَذَا اللَّفْظِ فِي مَعْنَى الْوَصْلَةِ فَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ) مَعْنَاهُ لَقَدْ تَقَطَّعَ وَصْلُكُمْ . أَمَّا مَنْ قَرَأَ " لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ " بِالنَّصْبِ فَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَضْمَرَ الْفَاعِلَ ، وَالتَّقْدِيرُ : لَقَدْ تَقَطَّعَ وَصْلُكُمْ بَيْنَكُمْ ، وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16076سِيبَوَيْهِ : إِنَّهُمْ قَالُوا : إِذَا كَانَ غَدًا فَأْتِنِي . وَالتَّقْدِيرُ : إِذَا كَانَ الرَّجَاءُ أَوِ الْبَلَاءُ غَدًا فَأْتِنِي ، فَأَضْمَرَ لِدَلَالَةِ الْحَالِ . فَكَذَا هَاهُنَا . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12590ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : التَّقْدِيرُ : لَقَدْ تَقَطَّعَ مَا بَيْنَكُمْ . فَحُذِفَتْ لِوُضُوحِ مَعْنَاهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى قَانُونٍ شَرِيفٍ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28766مَعْرِفَةِ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ :
فَأَوَّلُهَا : أَنَّ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ إِنَّمَا تَعَلَّقَتْ بِهَذَا الْجَسَدِ آلَةً لَهُ فِي اكْتِسَابِ الْمَعَارِفِ الْحَقَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ ، فَإِذَا فَارَقَتِ النَّفْسُ الْجَسَدَ وَلَمْ يَحْصُلْ هَذَيْنِ الْمَطْلُوبَيْنِ الْبَتَّةَ ، عَظُمَتْ حَسَرَاتُهُ ، وَقَوِيَتْ آفَاتُهُ ، حَيْثُ وَجَدَ مِثْلَ هَذِهِ الْآلَةِ الشَّرِيفَةِ الَّتِي يُمْكِنُ اكْتِسَابُ السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ بِهَا ، ثُمَّ إِنَّهُ ضَيَّعَهَا وَأَبْطَلَهَا ، وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا الْبَتَّةَ ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ )
وَثَانِيهَا : أَنَّ هَذِهِ النَّفْسَ مَعَ أَنَّهَا لَمْ تَكْتَسِبْ بِهَذِهِ الْآلَةِ الْجَسَدَانِيَّةِ سَعَادَةً رُوحَانِيَّةً ، وَكَمَالًا رُوحَانِيًّا ، فَقَدْ عَمِلَتْ عَمَلًا آخَرَ أَرْدَأَ مِنَ الْأَوَّلِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا طُولَ الْعُمْرِ كَانَتْ فِي الرَّغْبَةِ فِي تَحْصِيلِ الْمَالِ وَالْجَاهِ ، وَفِي تَقْوِيَةِ الْعِشْقِ عَلَيْهَا ، وَتَأْكِيدِ الْمَحَبَّةِ ، وَفِي تَحْصِيلِهَا . وَالْإِنْسَانُ فِي الْحَقِيقَةِ مُتَوَجِّهٌ مِنَ الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ إِلَى الْعَالَمِ الرُّوحَانِيِّ ، فَهَذَا الْمِسْكِينُ قَلَبَ الْقَضِيَّةَ ، وَعَكَسَ الْقَضِيَّةَ ، وَأَخَذَ يَتَوَجَّهُ مِنَ الْمَقْصِدِ الرُّوحَانِيِّ إِلَى الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ ، وَنَسِيَ مَقْصِدَهُ وَاغْتَرَّ بِاللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ ، فَلَمَّا مَاتَ انْقَلَبَتِ الْقَضِيَّةُ شَاءَ أَمْ أَبَى ، تَوَجَّهَ مِنَ الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ إِلَى الْعَالَمِ الرُّوحَانِيِّ ، فَبَقِيَتِ الْأَمْوَالُ الَّتِي اكْتَسَبَهَا ، وَأَفْنَى عُمْرَهُ فِي تَحْصِيلِهَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ ، وَالشَّيْءُ الَّذِي يَبْقَى وَرَاءَ ظَهْرِ الْإِنْسَانِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ ، وَرُبَّمَا بَقِيَ
[ ص: 73 ] مُنْقَطِعَ الْمَنْفَعَةِ ، مُعْوَجَّ الرَّقَبَةِ ، مُعْوَجَّ الرَّأْسِ بِسَبَبِ الْتِفَاتِهِ إِلَيْهَا مَعَ الْعَجْزِ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِهَا ، وَذَلِكَ يُوجِبُ نِهَايَةَ الْخَيْبَةِ وَالْغَمِّ وَالْحَسْرَةِ ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَالٍ يَكْتَسِبُهُ الْإِنْسَانُ وَلَمْ يَصْرِفْهُ فِي مَصَارِفِ الْخَيْرَاتِ ، فَصِفَتُهُ هَذِهِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، أَمَّا إِذَا صَرَفَهَا إِلَى الْجِهَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ ، وَالشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ ، فَمَا تَرَكَ تِلْكَ الْأَمْوَالَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ، وَلَكِنَّهُ قَدَّمَهَا تِلْقَاءَ وَجْهِهِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=110وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ ) [ الْبَقَرَةِ : 110 ] .
وَثَالِثُهَا : أَنَّ أُولَئِكَ الْمَسَاكِينَ أَتْعَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي نُصْرَةِ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ ، وَالْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِهَا عِنْدَ الْوُرُودِ فِي مَحْفِلِ الْقِيَامَةِ ، فَإِذَا وَرَدُوهُ وَشَاهَدُوا مَا فِي تِلْكَ الْمَذَاهِبِ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ وَالْعِقَابِ الدَّائِمِ ، حَصَلَتْ فِيهِ جِهَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْعَذَابِ ؛ مِنْهَا عَذَابُ الْحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ : وَهُوَ أَنَّهُ كَيْفَ أَنْفَقَ مَالَهُ فِي تَحَمُّلِ الْعَنَاءِ الشَّدِيدِ وَالْبَلَاءِ الْعَظِيمِ فِي تَحْصِيلِ مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْهُ إِلَّا الْعَذَابُ وَالْعَنَاءُ ، وَمِنْهَا عَذَابُ الْخَجَلَةِ : وَهُوَ أَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ يَعْتَقِدُهُ فِي دَارِ الدُّنْيَا كَانَ مَحْضَ الْجَهَالَةِ وَصَرِيحَ الضَّلَالَةِ ، وَمِنْهَا حُصُولُ الْيَأْسِ الشَّدِيدِ مَعَ الطَّمَعِ الْعَظِيمِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَجْمُوعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ يُوجِبُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ وَالْآلَامَ الْعَظِيمَةَ الرُّوحَانِيَّةَ ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ) .
وَرَابِعُهَا : أَنَّهُ لَمَّا بَدَا لَهُ أَنَّهُ فَاتَهُ الْأَمْرُ الَّذِي بِهِ يَقْدِرُ عَلَى اكْتِسَابِ الْخَيْرَاتِ ، وَحَصَلَ عِنْدَهُ الْأَمْرُ الَّذِي يُوجِبُ حُصُولَ الْمَضَرَّاتِ ، فَإِذَنْ بَقِيَ لَهُ رَجَاءٌ فِي التَّدَارُكِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَهَاهُنَا يَحُفُّ ذَلِكَ الْأَلَمُ وَيَضْعُفُ ذَلِكَ الْحُزْنُ . أَمَّا إِذَا حَصَلَ الْجَزْمُ وَالْيَقِينُ بِأَنَّ التَّدَارُكَ مُمْتَنِعٌ وَجَبْرَ ذَلِكَ النُّقْصَانِ مُتَعَذَّرٌ ، فَهَاهُنَا يَعْظُمُ الْحُزْنُ وَيَقْوَى الْبَلَاءُ جِدًّا ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ) وَالْمَعْنَى أَنَّ الْوَصْلَةَ الْحَاصِلَةَ بَيْنَ النَّفْسِ وَالْجَسَدِ قَدْ تَقَطَّعَتْ وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَحْصِيلِهَا مَرَّةً أُخْرَى . وَعِنْدَ الْوُقُوفِ عَلَى حَقَائِقِ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا بَيَانَ فَوْقَ هَذَا الْبَيَانِ فِي شَرْحِ
nindex.php?page=treesubj&link=28766_30351_30438_30539_30437أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ .