قوله تعالى : ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ) .
اعلم أنه تعالى حكى عن الكفار شبهة توجب الطعن في نبوته ، وهي قولهم : إن هذا القرآن إنما جئتنا به لأنك تدارس العلماء ، وتباحث الأقوام الذين عرفوا التوراة والإنجيل ، ثم تجمع هذه السور وهذه الآيات بهذا الطريق ، ثم إنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة بما سبق ، وهذه الآية مشتملة على شبهة أخرى ، وهي قولهم له : إن هذا القرآن كيفما كان أمره ، فليس من جنس المعجزات البتة ، ولو أنك يا محمد جئتنا بمعجزة قاهرة وبينة ظاهرة لآمنا بك ، وحلفوا على ذلك ، وبالغوا في تأكيد ذلك الحلف ، فالمقصود من هذه الآية تقرير هذه الشبهة ؛ وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال الواحدي : إنما سمى اليمين بالقسم ؛ لأن الذي يخبر به الإنسان ، إما مثبتا للشيء ، وإما نافيا . ولما كان الخبر يدخله الصدق والكذب احتاج المخبر إلى طريق به يتوسل إلى ترجيح جانب الصدق على جانب الكذب ، وذلك هو الحلف ، ولما كانت الحاجة إلى ذكر الحلف ، إنما تحصل عند انقسام الناس عند سماع ذلك الخبر إلى مصدق به ومكذب به ، سموا الحلف بالقسم ، وبنوا تلك الصيغة على أفعل فقالوا : أقسم فلان يقسم إقساما ؛ وأرادوا أنه أكد القسم الذي اختاره ، وأحال الصدق إلى القسم الذي اختاره بواسطة الحلف واليمين . اليمين موضوعة لتوكيد الخبر
المسألة الثانية : ذكروا في سبب النزول وجوها :
الأول : قالوا لما نزل قوله تعالى : ( إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ) [ الشعراء : 4 ] ، فنزلت هذه الآية . أقسم المشركون بالله لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها
الثاني : قال : محمد بن كعب القرظي إن المشركين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : تخبرنا أن موسى ضرب الحجر بالعصا فانفجر الماء ، وأن عيسى أحيا الميت ، وأن صالحا أخرج الناقة من الجبل ، فأتنا أيضا أنت بآية لنصدقك ؛ فقال عليه الصلاة والسلام : ما الذي تحبون فقالوا : أن تجعل لنا الصفا ذهبا ، وحلفوا لئن فعل ليتبعونه أجمعون ، فقام عليه الصلاة والسلام يدعو ، فجاءه جبريل عليه السلام فقال : إن شئت كان ذلك ، ولئن كان فلم يصدقوا عنده ليعذبنهم ، وإن تركوا تاب على بعضهم ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : بل يتوب على بعضهم فأنزل الله تعالى هذه الآية .
المسألة الثالثة : ذكروا في تفسير قوله : ( جهد أيمانهم ) وجوها :
قال الكلبي ومقاتل : إذا حلف الرجل [ ص: 118 ] بالله فهو جهد يمينه .
وقال الزجاج : بالغوا في الأيمان ، وقوله : ( لئن جاءتهم آية ) اختلفوا في المراد بهذه الآية ، فقيل ما روينا من جعل الصفا ذهبا ، وقيل : هي الأشياء المذكورة في قوله تعالى : ( وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ) [ الإسراء : 90 ] وقيل : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخبرهم بأن عذاب الاستئصال كان ينزل بالأمم المتقدمين الذين كذبوا أنبياءهم ، فالمشركون طلبوا مثلها .
وقوله : ( قل إنما الآيات عند الله ) ذكروا في تفسير لفظة " عند " وجوها ، فيحتمل أن يكون المعنى أنه تعالى هو المختص بالقدرة على أمثال هذه الآيات دون غيره ؛ لأن المعجزات الدالة على النبوات شرطها أن لا يقدر على تحصيلها أحد إلا الله سبحانه وتعالى ؛ ويحتمل أن يكون المراد بالعندية أن العلم بأن ؟ ولفظ العندية بهذا المعنى كما في قوله : ( إحداث هذه المعجزات هل يقتضي إقدام هؤلاء الكفار على الإيمان أم لا ليس إلا عند الله وعنده مفاتح الغيب ) [ الأنعام : 59 ] ويحتمل أن يكون المراد أنها وإن كانت في الحال معدومة ؛ إلا أنه تعالى متى شاء إحداثها أحدثها ، فهي جارية مجرى الأشياء الموضوعة عند الله يظهرها متى شاء ، وليس لكم أن تتحكموا في طلبها ، ولفظ " عند " بهذا المعنى هنا كما في قوله : ( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه ) [ الحجر : 21 ] .
ثم قال تعالى : ( وما يشعركم ) قال أبو علي : " ما " استفهام ، وفاعل يشعركم ضمير " ما " ، والمعنى : وما يدريكم إيمانهم ؟ فحذف المفعول ، وحذف المفعول كثير ، والتقدير : وما يدريكم إيمانهم ، أي بتقدير أن تجيئهم هذه الآيات ، فهم لا يؤمنون ، وقوله : ( أنها إذا جاءت لا يؤمنون ) ، قرأ ابن كثير وأبو عمرو : " أنها " بكسر الهمزة على الاستئناف ، وهي القراءة الجيدة . والتقدير : أن الكلام تم عند قوله : ( وما يشعركم ) أي وما يشعركم ما يكون منهم ، ثم ابتدأ فقال : ( أنها إذا جاءت لا يؤمنون ) قال : سألت سيبويه الخليل عن القراءة بفتح الهمزة في أن ، وقلت : لم لا يجوز أن يكون التقدير ما يدريك أنه لا يفعل ؟ فقال الخليل : إنه لا يحسن ذلك هاهنا ؛ لأنه لو قال : ( وما يشعركم أنها ) بالفتح لصار ذلك عذرا لهم ؛ هذا كلام الخليل ، وتفسيره إنما يظهر بالمثال ، فإذا اتخذت ضيافة وطلبت من رئيس البلد أن يحضر فلم يحضر ، فقيل لك : لو ذهبت أنت بنفسك إليه لحضر ، فإذا قلت : وما يشعركم أني لو ذهبت إليه لحضر ؛ كان المعنى : أني لو ذهبت إليه بنفسي فإنه لا يحضر أيضا ، فكذا هاهنا قوله : ( وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ) معناه أنها إذا جاءت آمنوا ، وذلك يوجب مجيء هذه الآيات ، ويصير هذا الكلام عذرا للكفار في طلب الآيات ، والمقصود من الآية دفع حجتهم في طلب الآيات ، فهذا تقرير كلام الخليل ، وقرأ الباقون من القراء " أنها " بالفتح ، وفي تفسيره وجوه :
الأول : قال الخليل : " أن " بمعنى لعل تقول العرب : ائت السوق أنك تشتري لنا شيئا ، أي لعلك ، فكأنه تعالى قال : لعلها إذا جاءت لا يؤمنون ، قال الواحدي : " أن " بمعنى لعل كثير في كلامهم ؛ قال الشاعر :
أريني جوادا مات هولا لأنني أرى ما تريني أو بخيلا مخلدا
.وقال آخر :
هل أنتم عاجلون بنا لأنا نرى العرصات أو أثر الخيام
وقال : عدي بن حاتم
[ ص: 119 ]
أعاذل ما يدريك أن منيتي إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد
وقال الواحدي : وفسر علي " لعل منيتي " روى صاحب " الكشاف " أيضا في هذا المعنى قول امرئ القيس :
عوجا على الطلل المحيل لأننا نبكي الديار كما بكى ابن خذام
قال صاحب " الكشاف " ويقوي هذا الوجه قراءة أبي : " لعلها إذا جاءتهم لا يؤمنون " .
الوجه الثاني في هذه القراءة : أن تجعل " لا " صلة ، ومثله ( ما منعك ألا تسجد ) [ الأعراف : 12 ] معناه أن تسجد ، وكذلك قوله : ( وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون ) [ الأنبياء : 95 ] أي يرجعون فكذا هاهنا التقدير : وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون ، والمعنى : أنها لو جاءت لم يؤمنوا ؛ قال الزجاج : وهذا الوجه ضعيف ؛ لأن ما كان لغوا يكون لغوا على جميع التقديرات ، ومن قرأ : " إنها " بالكسر فكلمة " لا " في هذه القراءة ليست بلغو ، فثبت أنه لا يجوز جعل هذا اللفظ لغوا ؛ قال أبو علي الفارسي : لم لا يجوز أن يكون لغوا على أحد التقديرين ، ويكون مفيدا على التقدير الثاني ؟ واختلف القراء أيضا في قوله : ( لا يؤمنون ) فقرأ بعضهم بالياء ، وهو الوجه لأن قوله : ( وأقسموا بالله ) إنما يراد به قوم مخصوصون ، والدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية : ( ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة ) وليس كل الناس بهذا الوصف ، والمعنى ؛ فالوجه الياء . وما يشعركم أيها المؤمنون لعلهم إذا جاءتهم الآية التي اقترحوها لم يؤمنوا
وقرأ حمزة وابن عامر بالتاء ، وهو على الانصراف من الغيبة إلى الخطاب ، والمراد بالمخاطبين في " تؤمنون " هم الغائبون المقسمون الذين أخبر الله عنهم أنهم لا يؤمنون ، وذهب مجاهد وابن زيد إلى أن الخطاب في قوله : ( وما يشعركم ) للكفار الذين أقسموا .
قال : وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت ، وهذا يقوي قراءة من قرأ : " تؤمنون " بالتاء ، على ما ذكرنا أولا : الخطاب في قوله : ( مجاهد وما يشعركم ) للكفار الذين أقسموا .
وعلى ما ذكرنا ثانيا : الخطاب في قوله : ( وما يشعركم ) للمؤمنين ، وذلك لأنهم تمنوا نزول الآية ليؤمن المشركون وهو الوجه ، كأنه قيل للمؤمنين تتمنون ذلك وما يدريكم أنهم يؤمنون ؟ .