( أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين )
قوله تعالى : ( أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين )
فيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها ، أجاب عنه بأنه لا فائدة في إظهار تلك الآيات؛ لأنه تعالى لو أظهرها لبقوا مصرين على كفرهم . ثم إنه تعالى بين في هذه الآية أن الدليل الدال على نبوته قد حصل وكمل ، فكان ما يطلبونه طلبا للزيادة ، وذلك مما لا يجب الالتفات إليه . وإنما قلنا : إن الدليل الدال على نبوته قد حصل لوجهين :
الوجه الأول : أن الله قد حكم بنبوته من حيث إنه أنزل إليه الكتاب المفصل المبين المشتمل على العلوم الكثيرة والفصاحة الكاملة ، وقد عجز الخلق عن معارضته . فظهور مثل هذا المعجز عليه يدل على أنه تعالى قد حكم بنبوته ، فقوله : ( أفغير الله أبتغي حكما ) يعني قل يا محمد : إنكم تتحكمون في طلب سائر المعجزات ، فهل يجوز في العقل أن يطلب غير الله حكما ؟ فإن كل أحد يقول إن ذلك غير جائز . ثم قل : إنه تعالى حكم بصحة نبوتي حيث خصني بمثل هذا الكتاب المفصل الكامل البالغ إلى حد الإعجاز .
والوجه الثاني : من الأمور الدالة على نبوته ؛ اشتمال التوراة والإنجيل على محمدا عليه الصلاة والسلام رسول حق ، وعلى أن القرآن كتاب حق من عند الله تعالى ، وهو المراد من قوله : ( الآيات الدالة على أن والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ) وبالجملة فالوجهان مذكوران في قوله تعالى : ( قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ) [ الرعد : 43 ] .
أما قوله تعالى في آخر الآية : ( فلا تكونن من الممترين ) ففيه وجوه :
الأول : أن هذا من باب التهييج والإلهاب كقوله : ( ولا تكونن من المشركين ) [ الأنعام : 41 ] .
والثاني : التقدير ( فلا تكونن من الممترين ) في أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق .
والثالث : يجوز أن يكون قوله : ( فلا تكونن ) خطابا لكل واحد ، والمعنى أنه لما ظهرت الدلائل فلا ينبغي أن يمتري فيها أحد .
الرابع : قيل هذا الخطاب وإن كان في الظاهر للرسول إلا أن المراد منه أمته .
المسألة الثانية : قوله : ( والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ) قرأ ابن عامر وحفص ( منزل ) بالتشديد والباقون بالتخفيف ، والفرق بين التنزيل والإنزال قد ذكرناه مرارا .
[ ص: 131 ] المسألة الثالثة : قال الواحدي : ( أفغير الله أبتغي حكما ) الحكم والحاكم واحد عند أهل اللغة ، غير أن بعض أهل التأويل قال: الحكم أكمل من الحاكم ؛ لأن الحاكم كل من يحكم . وأما الحكم فهو الذي لا يحكم إلا بالحق والمعنى أنه تعالى حكم حق لا يحكم إلا بالحق . فلما أظهر المعجز الواحد وهو القرآن فقد حكم بصحة هذه النبوة ، ولا مرتبة فوق حكمه فوجب القطع بصحة هذه النبوة . فأما أنه هل يظهر سائر المعجزات أم لا ؟ فلا تأثير له في هذا الباب بعد أن ثبت أنه تعالى حكم بصحة هذه النبوة بواسطة إظهار المعجز الواحد .