إذا ثبت هذا فنقول : قوله تعالى : ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ) يفيد تخصيص هذه الحرمة بهم من وجهين :
الأول : أن قوله : ( وعلى الذين هادوا حرمنا ) كذا وكذا يفيد الحصر في اللغة .
والثاني : أنه لو كانت هذه الحرمة ثابتة في حق الكل لم يبق لقوله ، ( وعلى الذين هادوا حرمنا ) فائدة . فثبت أن باليهود ، فوجب أن لا تكون محرمة على المسلمين ، فصارت هذه الآية دالة على[ عدم حرمة ] هذه الحيوانات على المسلمين ، وعند هذا نقول : ما روي أنه صلى الله عليه وسلم تحريم السباع وذوي المخالب من الطير مختص ضعيف؛ لأنه خبر واحد على خلاف كتاب الله تعالى ، فوجب أن لا يكون مقبولا ، وعلى هذا التقدير : يقوى قول مالك في هذه المسألة . حرم كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور
النوع الثاني : من الأشياء التي حرمها الله تعالى على اليهود خاصة ، قوله تعالى : ( ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما ) فبين تعالى أنه اليهود شحوم البقر والغنم ، ثم في الآية قولان : الأول : إنه تعالى استثنى عن هذا التحريم ثلاثة أنواع : أولها : قوله : ( حرم على إلا ما حملت ظهورهما ) قال : إلا ما علق بالظهر من الشحم ، فإني لم أحرمه وقال ابن عباس قتادة : إلا ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونها ، وأقول ليس على الظهر والجنب شحم إلا اللحم الأبيض السمين الملتصق باللحم الأحمر على هذا التقدير : فذلك اللحم السمين الملتصق مسمى بالشحم ، وبهذا التقدير : لو ، وجب أن يحنث بأكل ذلك اللحم السمين . حلف لا يأكل الشحم
والاستثناء الثاني : قوله تعالى : ( أو الحوايا ) قال الواحدي : وهي المباعر والمصارين ، واحدتها حاوية وحوية، قال : هي الحوية أو الحاوية ، وهي الدوارة التي في بطن الشاة . وقال ابن الأعرابي : يقال حاوية وحوايا ، مثل راوية وروايا . ابن السكيت
إذا عرفت هذا : فالمراد أن غير محرمة . الشحوم الملتصقة بالمباعر والمصارين
والاستثناء الثالث : قوله : ( ما اختلط بعظم ) قالوا : إنه شحم الألية في قول جميع المفسرين . وقال : كل شحم في القائم والجنب والرأس ، وفي العينين والأذنين . يقول : إنه اختلط بعظم فهو حلال لهم ، وعلى هذا التقدير : فالشحم الذي حرمه الله عليهم هو الثرب وشحم الكلية . ابن جريج
القول الثاني : في الآية أن قوله : ( أو الحوايا ) غير معطوف على المستثنى ، بل على المستثنى منه والتقدير : حرمت عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت ظهورهما فإنه غير محرم قالوا : [ ص: 184 ] ودخلت كلمة " أو " كدخولها في قوله تعالى : ( ولا تطع منهم آثما أو كفورا ) [ الإنسان : 24 ] والمعنى كل هؤلاء أهل أن يعصى ، فاعص هذا واعص هذا ، فكذا هاهنا المعنى حرمنا عليهم هذا وهذا .
ثم قال تعالى : ( ذلك جزيناهم ببغيهم ) والمعنى : أنا إنما خصصناهم بهذا التحريم جزاء على بغيهم ، وهو قتلهم الأنبياء ، وأخذهم الربا ، وأكلهم أموال الناس بالباطل ، ونظيره قوله تعالى : ( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ) [ النساء : 160 ] .
ثم قال تعالى : ( وإنا لصادقون ) أي في الإخبار عن بغيهم وفي الإخبار عن تخصيصهم بهذا التحريم بسبب بغيهم . قال القاضي : نفس التحريم لا يجوز أن يكون عقوبة على جرم صدر عنهم ؛ لأن التكليف تعريض للثواب ، والتعريض للثواب إحسان، فلم يجز أن يكون التكليف جزاء على الجرم المتقدم .
فالجواب : أن المنع من الانتفاع يمكن أن يكون لمزيد استحقاق الثواب ، ويمكن أيضا أن يكون للجرم المتقدم ، وكل واحد منهما غير مستبعد .
ثم قال تعالى : ( فإن كذبوك ) يعني إن كذبوك في ادعاء النبوة والرسالة ، وكذبوك في تبليغ هذه الأحكام ( فقل ربكم ذو رحمة واسعة ) فلذلك لا يعجل عليكم بالعقوبة ( ولا يرد بأسه ) أي عذابه إذا جاء الوقت ( عن القوم المجرمين ) يعني الذين كذبوك فيما تقول . والله أعلم .