ثم قال تعالى : ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إن هذه الآية ظاهرها استفهام ، إلا أن المراد منه تقرير الإنكار ، والمبالغة في تقرير ذلك الإنكار ، وفي الآية قولان :
القول الأول : إن المراد من الزينة في هذه الآية اللباس الذي تستر به العورة ، وهو قول رضي الله عنهما ، وكثير من المفسرين . ابن عباس
والقول الثاني : إنه يتناول جميع ، فيدخل تحت الزينة جميع أنواع التزيين ، ويدخل تحتها تنظيف البدن من جميع الوجوه ، ويدخل تحتها المركوب ، ويدخل تحتها أيضا أنواع الحلي ؛ لأن كل ذلك زينة ، ولولا النص الوارد في تحريم أنواع الزينة لكان ذلك داخلا تحت هذا العموم ، ويدخل تحت الطيبات من الرزق كل ما يستلذ ويشتهى من أنواع المأكولات والمشروبات ، ويدخل أيضا تحته التمتع بالنساء وبالطيب . وروي الذهب والفضة والإبريسم على الرجال عن : أنه أتى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقال : غلبني حديث النفس ، عزمت على أن أختصي ، فقال : مهلا يا عثمان بن مظعون عثمان ، إن خصاء أمتي الصيام ، قال : فإن نفسي تحدثني بالترهب . قال : إن ترهب أمتي القعود في المساجد لانتظار الصلاة ، فقال : تحدثني نفسي بالسياحة ، فقال : سياحة أمتي الغزو والحج والعمرة ، فقال : إن نفسي تحدثني أن أخرج مما أملك ، فقال : الأولى أن تكفي نفسك وعيالك وأن ترحم اليتيم والمسكين فتعطيه أفضل من ذلك . فقال : إن نفسي تحدثني أن أطلق خولة ، فقال : إن الهجرة في أمتي هجرة ما حرم الله ، قال : فإن نفسي تحدثني أن لا أغشاها . قال : إن المسلم [ ص: 53 ] إذا غشي أهله أو ما ملكت يمينه ، فإن لم يصب من وقعته تلك ولدا كان له وصيف في الجنة ، وإذا كان له ولد مات قبله أو بعده كان له قرة عين ، وفرح يوم القيامة ، وإن مات قبل أن يبلغ الحنث كان له شفيعا ورحمة يوم القيامة . قال : فإن نفسي تحدثني أن لا آكل اللحم ، قال : مهلا إني آكل اللحم إذا وجدته ، ولو سألت الله أن يطعمنيه كل يوم فعله . قال : فإن نفسي تحدثني أن لا أمس الطيب . قال : مهلا فإن جبريل أمرني بالطيب غبا ، وقال : لا تتركه يوم الجمعة ، ثم قال : يا عثمان ، لا ترغب عن سنتي ، فإن من رغب عن سنتي ومات قبل أن يتوب صرفت الملائكة وجهه عن حوضي .
واعلم أن هذا الحديث يدل على أن هذه الشريعة الكاملة تدل على أن ، فلهذا السبب أدخلنا الكل تحت قوله : ( جميع أنواع الزينة مباح مأذون فيه ، إلا ما خصه الدليل قل من حرم زينة الله ) .
المسألة الثانية : مقتضى هذه الآية أن كل ما تزين الإنسان به ، وجب أن يكون حلالا ، وكذلك كل ما يستطاب وجب أن يكون حلالا ، فهذه الآية تقتضي ، وهذا أصل معتبر في كل الشريعة ؛ لأن كل واقعة تقع ، فإما أن يكون النفع فيها خالصا ، أو راجحا أو الضرر يكون خالصا أو راجحا ، أو يتساوى الضرر والنفع ، أو يرتفعا . أما القسمان الأخيران ، وهو أن يتعادل الضرر والنفع ، أو لم يوجدا قط ففي هاتين الصورتين ، وجب الحكم ببقاء ما كان على ما كان ، وإن كان النفع خالصا ، وجب الإطلاق بمقتضى هذه الآية ، وإن كان النفع راجحا والضرر مرجوحا يقابل المثل بالمثل ، ويبقى القدر الزائد نفعا خالصا ، فيلتحق بالقسم الذي يكون النفع فيه خالصا ، وإن كان الضرر خالصا ، كان تركه خالص النفع ، فيلتحق بالقسم المتقدم ، وإن كان الضرر راجحا بقي القدر الزائد ضررا خالصا ، فكان تركه نفعا خالصا ، فبهذا الطريق صارت هذه الآية دالة على الأحكام التي لا نهاية لها في الحل والحرمة ، ثم إن وجدنا نصا خالصا في الواقعة ، قضينا في النفع بالحل ، وفي الضرر بالحرمة ، وبهذا الطريق صار جميع الأحكام التي لا نهاية لها داخلا تحت النص ثم قال نفاة القياس : فلو تعبدنا الله تعالى بالقياس ، لكان حكم ذلك القياس : إما أن يكون موافقا لحكم هذا النص العام ، وحينئذ يكون ضائعا ؛ لأن هذا النص مستقل به ، وإن كان مخالفا كان ذلك القياس مخصصا لعموم هذا النص ، فيكون مردودا لأن العمل بالنص أولى من العمل بالقياس . قالوا : وبهذا الطريق يكون القرآن وحده وافيا ببيان كل أحكام الشريعة ، ولا حاجة معه إلى طريق آخر ، فهذا تقرير قول من يقول : القرآن واف ببيان جميع الوقائع . والله أعلم . حل كل المنافع