ثم قال تعالى : ( وادعوه خوفا وطمعا ) وفيه سؤالات :
السؤال الأول : قال في أول الآية : ( ادعوا ربكم ) ثم قال : ( ولا تفسدوا ) ثم قال : ( وادعوه ) وهذا يقتضي عطف الشيء على نفسه وهو باطل .
والجواب : أن الذين قالوا في تفسير قوله : ( ادعوا ربكم تضرعا ) أي اعبدوه ، إنما قالوا ذلك خوفا من هذا الإشكال .
[ ص: 110 ] فإن قلنا بهذا التفسير فقد زال السؤال ، وإن قلنا المراد من قوله : ( ادعوا ربكم تضرعا ) هو الدعاء كان الجواب أن قوله : ( ادعوا ربكم تضرعا وخفية ) يدل على أن ، ثم بين في قوله ( الدعاء لا بد وأن يكون مقرونا بالتضرع وبالإخفاء وادعوه خوفا وطمعا ) أن فائدة الدعاء هو أحد هذين الأمرين ، فكانت الآية الأولى في بيان شرط صحة الدعاء ، والآية الثانية في بيان فائدة الدعاء ومنفعته .
السؤال الثاني : أن المتكلمين اتفقوا على أن لم تصح عبادته ، وذلك لأن المتكلمين فريقان : منهم من قال التكاليف إنما وردت بمقتضى الإلهية والعبودية ، فكونه إلها لنا وكوننا عبيدا له يقتضي أن يحسن منه أن يأمر عبيده بما شاء ، فلا يعتبر منه كونه في نفسه صلاحا وحسنا ، وهذا قول أهل السنة . ومنهم من قال : التكاليف إنما وردت لكونها في أنفسها مصالح ؛ وهذا هو قول المعتزلة . من عبد ودعا لأجل الخوف من العقاب والطمع في الثواب
إذا عرفت هذا فنقول : أما على القول الأول : فوجه وجوب بعض الأعمال وحرمة بعضها مجرد أمر الله بما أوجبه ، ونهيه عما حرمه ، فمن أتى بهذه العبادات صحت . أما من أتى بها خوفا من العقاب ، أو طمعا في الثواب وجب أن لا يصح ؛ لأنه ما أتى بها لأجل وجه وجوبها . وأما على القول الثاني : فوجه وجوبها هو كونها في أنفسها مصالح ، فمن أتى بها للخوف من العقاب ، أو للطمع في الثواب ، فلم يأت بها لوجه وجوبها ، فوجب أن لا تصح ، فثبت أن على كلا المذهبين من أتى بالدعاء وسائر العبادات لأجل الخوف من العقاب ، والطمع في الثواب ، وجب أن لا يصح .
إذا ثبت هذا فنقول : ظاهر قوله : ( وادعوه خوفا وطمعا ) يقتضي أنه تعالى أمر المكلف بأن يأتي بالدعاء لهذا الغرض ، وقد ثبت بالدليل فساده ، فكيف طريق التوفيق بين ظاهر هذه الآية وبين ما ذكرناه من المعقول ؟ .
والجواب : ليس المراد من الآية ما ظننتم ، بل المراد : وادعوه مع الخوف من وقوع التقصير ، في بعض الشرائط المعتبرة في قبول ذلك الدعاء ، ومع الطمع في حصول تلك الشرائط بأسرها ، وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل .
السؤال الثالث : هل تدل هذه الآية على أن الداعي لا بد وأن يحصل في قلبه هذا الخوف والطمع ؟
والجواب : أن العبد لا يمكنه أن يقطع بكونه آتيا بجميع الشرائط المعتبرة في قبول الدعاء ، ولأجل هذا المعنى يحصل الخوف ، وأيضا لا يقطع بأن تلك الشرائط مفقودة ، فوجب كونه طامعا في قبولها فلا جرم .
قلنا : بأن الداعي لا يكون داعيا إلا إذا كان كذلك فقوله : ( خوفا وطمعا ) أي أن تكونوا جامعين في نفوسكم بين الخوف والرجاء في كل أعمالكم ، ولا تقطعوا أنكم وإن اجتهدتم فقد أديتم حق ربكم . ويتأكد هذا بقوله : ( يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة ) [المؤمنون : 60] .