وإذا ثبت هذا فنقول : إن القوم كانوا يبالغون في السفاهة على نوح عليه السلام ، ثم إنه في اليوم الثاني كان يعود إليهم ويدعوهم إلى الله ، وقد ذكر الله تعالى عنه ذلك فقال : ( رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا ) [ نوح : 5 ] فلما كان نوح عليه السلام العود إلى تجديد تلك الدعوة في كل يوم وفي كل ساعة ، لا جرم ذكره بصيغة الفعل ، فقال : ( من عادة وأنصح لكم ) وأما هود عليه السلام وأنا لكم ناصح ) يدل على كونه مثبتا في تلك النصيحة مستقرا فيها . أما ليس فيها إعلام بأنه سيعود إلى ذكرها حالا فحالا ويوما فيوما ، وأما الفرق الآخر في هذه الآية وهو أن فقوله : ( نوحا عليه السلام قال : ( وأعلم من الله ما لا تعلمون ) وهودا وصف نفسه بكونه أمينا ، فالفرق أن نوحا عليه السلام كان أعلى شأنا وأعظم منصبا في النبوة من هود ، فلم يبعد أن يقال : إن نوحا كان يعلم من أسرار حكم الله وحكمته ما لم يصل إليه هود ، فلهذا السبب أمسك هود لسانه عن ذكر تلك الكلمة ، واقتصر على أن وصف نفسه بكونه أمينا ، ومقصود منه أمور :
أحدها : الرد عليهم في قولهم : ( وإنا لنظنك من الكاذبين ) .
وثانيها : أن ، فوصف نفسه بكونه أمينا تقريرا للرسالة والنبوة . مدار أمر الرسالة والتبليغ عن الله على الأمانة
وثالثها : كأنه قال لهم : كنت قبل هذه الدعوى أمينا فيكم ، ما وجدتم مني غدرا ولا مكرا ولا كذبا ، واعترفتم لي بكوني أمينا ، فكيف نسبتموني الآن إلى الكذب ؟
واعلم أن الأمين هو الثقة ، وهو فعيل من أمن يأمن أمنا ، فهو آمن وأمين بمعنى واحد .
واعلم أن القوم لما قالوا له : ( إنا لنراك في سفاهة ) فهو لم يقابل سفاهتهم بالسفاهة بل قابلها بالحلم والإغضاء ، ولم يزد على قوله : ( ليس بي سفاهة ) وذلك يدل على أن أولى كما قال : ( ترك الانتقام وإذا مروا باللغو مروا كراما ) [ الفرقان : 72 ] .
أما قوله : ( ولكني رسول من رب العالمين ) فهو مدح للنفس بأعظم صفات المدح ، وإنما فعل ذلك لأنه كان يجب عليه إعلام القوم بذلك ، وذلك يدل على أن جائز . مدح الإنسان نفسه إذا كان في موضع الضرورة
[ ص: 128 ] والفرق السادس بين القصتين : أن نوحا عليه السلام قال : ( أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون ) وفي قصة هود أعاد هذا الكلام بعينه إلا أنه حذف منه قوله : ( ولتتقوا ولعلكم ترحمون ) والسبب فيه أنه لما ظهر في القصة الأولى أن هي حصول التقوى الموجبة للرحمة لم يكن إلى إعادته في هذه القصة حاجة ، وأما بعد هذه الكلمة فكله من خواص قصة فائدة الإنذار هود عليه السلام ، وهو قوله تعالى حكاية عن هود عليه السلام : ( واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ) .
واعلم أن الكلام في الخلفاء والخلائف والخليفة قد مضى في مواضع ، والمقصود منه أن والعداوة ، وقد ذكر تذكر النعم العظيمة يوجب الرغبة والمحبة وزوال النفرة هود عليه السلام ههنا نوعين من الإنعام :
الأول : أنه تعالى جعلهم خلفاء من بعد قوم نوح ، وذلك بأن أورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم وما يتصل بها من المنافع والمصالح .
والثاني : قوله : ( وزادكم في الخلق بسطة ) وفيه مباحث :
البحث الأول : " عبارة عن التقدير ، فهذا اللفظ إنما ينطلق على الشيء الذي له مقدار وجثة وحجمية ، فكان المراد حصول الزيادة في أجسامهم ، ومنهم من حمل هذا اللفظ على الزيادة في القوة ، وذلك لأن القوى والقدر متفاوتة ، فبعضها أعظم وبعضها أضعف . الخلق " في اللغة
إذا عرفت هذا فنقول : لفظ الآية يدل على حصول الزيادة ، وأما اعتداد تلك الزيادة فليس في اللفظ البتة ما يدل عليه ، إلا أن العقل يدل على أن تلك الزيادة يجب أن تكون زيادة عظيمة واقعة على خلاف المعتاد ، وإلا لم يكن لتخصيصها بالذكر في معرض الأنعام فائدة . قال الكلبي : كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعا ، وقال آخرون : تلك الزيادة هي مقدار ما تبلغه يدا إنسان إذا رفعهما ، ففضلوا على أهل زمانهم بهذا القدر ، وقال قوم يحتمل أن يكون المراد من قوله : ( وزادكم في الخلق بسطة ) كونهم من قبيلة واحدة متشاركين في القوة والشدة والجلادة ، وكون بعضهم محبا للباقين ناصرا لهم ، وزوال العداوة والخصومة من بينهم ، فإنه تعالى لما خصهم بهذه الأنواع من الفضائل والمناقب فقد قرر لهم حصولها ، فصح أن يقال : ( وزادكم في الخلق بسطة ) ولما ذكر هود هذين النوعين من النعمة قال : ( فاذكروا آلاء الله ) وفيه بحثان :
البحث الأول : لا بد في الآية من إضمار ، والتقدير : واذكروا آلاء الله واعملوا عملا يليق بتلك الإنعامات لعلكم تفلحون . وإنما أضمرنا العمل لأن الصلاح الذي هو ، بل لا بد له من العمل ، واستدل الطاعنون في وجوب الأعمال الظاهرة بهذه الآية ، وقالوا : إنه تعالى رتب حصول الصلاح على مجرد التذكر ، فوجب أن يكون مجرد التذكر كافيا في حصول الصلاح . وجوابه ما تقدم من أن سائر الآيات ناطقة بأنه لا بد من العمل . والله أعلم . الظفر بالثواب لا يحصل بمجرد التذكر
البحث الثاني : قال : " آلاء الله " أي نعم الله عليكم . قال ابن عباس الواحدي : واحد الآلاء إلى وألو وإلي . قال الأعشى :
أبيض لا يرهب الهزال ولا يقطع رحما ولا يخون إلى
قال : نظير الآلاء الآناء ، واحدها : أنا وإنى وإني ، وزاد صاحب " الكشاف " في الأمثلة فقال : ضلع وأضلاع ، وعنب وأعناب .