قوله تعالى : ( وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين فتولى عنهم وقال ياقوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين ) . [ ص: 148 ]
اعلم أنه تعالى بين شعيب ، ثم بين أنهم لم يقتصروا على ذلك ، حتى أضلوا غيرهم ، ولاموهم على متابعته فقالوا : ( عظم ضلالتهم بتكذيب لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون ) واختلفوا فقال بعضهم : خاسرون في الدين ، وقال آخرون : خاسرون في الدنيا ؛ لأنه يمنعكم من أخذ الزيادة من أموال الناس ، وعند هذا المقال كمل حالهم في الضلال أولا وفي الإضلال ثانيا ، فاستحقوا الإهلاك ؛ فلهذا قال تعالى : ( فأخذتهم الرجفة ) وهي الزلزلة الشديدة المهلكة ، فإذا انضاف إليها الجزاء الشديد المخوف على ما ذكره الله تعالى من قصة الظلمة ، كان الهلاك أعظم ؛ لأنه أحاط بهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ( فأصبحوا في دارهم ) أي في مساكنهم ( جاثمين ) أي خامدين ساكنين بلا حياة ، وقد سبق الاستقصاء في تفسير هذه الألفاظ .
ثم قال تعالى : ( الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا ) وفيه بحثان :
البحث الأول : في قوله : ( كأن لم يغنوا ) قولان :
أحدهما : يقال : غني القوم في دارهم ، إذا طال مقامهم فيها .
والثاني : المنازل التي كان بها أهلوها واحدها مغنى . قال الشاعر :
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة في ظل ملك ثابت الأوتاد
أراد أقاموا فيها ، وعلى هذا الوجه كان قوله : ( كأن لم يغنوا ) كأن لم يقيموا بها ولم ينزلوا فيها .
والقول الثاني : قال الزجاج : كأن لم يغنوا ، كأن لم يعيشوا فيها مستغنين ، يقال : غني الرجل يغنى إذا استغنى ، وهو من الغنى الذي هو ضد الفقر .
وإذا عرفت هذا فنقول على التفسيرين : شبه الله حال هؤلاء المكذبين بحال من لم يكن قط في تلك الديار ، قال الشاعر :
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا صروف الليالي والجدود العواثر
البحث الثاني : قوله : ( الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا ) الذين : يدل على أن ذلك العذاب كان مختصا بأولئك المكذبين ، وذلك يدل على أشياء :
أحدها : أن ذلك ، وإلا لحصل في أتباع العذاب إنما حدث بتخليق فاعل مختار ، وليس ذلك أثر الكواكب والطبيعة شعيب كما حصل في حق الكفار .
والثاني : يدل [ ص: 149 ] على أن ذلك الفاعل المختار عالم بجميع الجزئيات ، حتى يمكنه التمييز بين المطيع والعاصي .
وثالثها : يدل على المعجز العظيم في حق شعيب ؛ لأن العذاب النازل من السماء لما وقع على قوم دون قوم مع كونهم مجتمعين في بلدة واحدة ، كان ذلك من أعظم المعجزات .
ثم قال تعالى : ( الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين ) وإنما كرر قوله : ( الذين كذبوا شعيبا ) لتعظيم المذلة لهم وتفظيع ما يستحقون من الجزاء على جهلهم ، والعرب تكرر مثل هذا في التفخيم والتعظيم ، فيقول الرجل لغيره : أخوك الذي ظلمنا ، أخوك الذي أخذ أموالنا ، أخوك الذي هتك أعراضنا ، وأيضا أن القوم لما قالوا : ( لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون ) بين تعالى أن الذين لم يتبعوه وخالفوه هم الخاسرون .
ثم قال تعالى : ( فتولى عنهم ) واختلفوا في أنه تولى بعد نزول العذاب بهم أو قبل ذلك ، وقد سبق ذكر هذه المسألة . قال الكلبي : خرج من بين أظهرهم ، . ولم يعذب قوم نبي حتى أخرج من بينهم
ثم قال : ( فكيف آسى على قوم كافرين ) الأسى شدة الحزن ، قال العجاج :
وانحلبت عيناه من فرط الأسى
إذا عرفت هذا فنقول : في الآية قولان :
القول الأول : أنه اشتد حزنه على قومه ؛ لأنهم كانوا كثيرين ، وكان يتوقع منهم الاستجابة للإيمان ، فلما أن نزل بهم ذلك الهلاك العظيم حصل في قلبه من جهة الوصلة والقرابة والمجاورة وطول الألفة ، ثم عزى نفسه وقال : ( فكيف آسى على قوم كافرين ) لأنهم هم الذين أهلكوا أنفسهم بسبب إصرارهم على الكفر .
والقول الثاني : أن المراد لقد أعذرت إليكم في الإبلاغ والنصيحة والتحذير مما حل بكم ، فلم تسمعوا قولي ، ولم تقبلوا نصيحتي فكيف آسى عليكم ؟ يعني أنهم ليسوا مستحقين بأن يأسى الإنسان عليهم . قال صاحب " الكشاف " : وقرأ " فكيف إيسى " بكسر الهمزة . يحيى بن وثاب