قوله تعالى : ( قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين ) .
اعلم أن في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع والكسائي " أرجه " بغير همز وكسر الهاء والإشباع ، وقرأ عاصم وحمزة " ارجه " بغير الهمز وسكون الهاء . وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو " أرجئه " بالهمز وضم الهاء ، ثم إن ابن كثير [ ص: 162 ] أشبع الهاء على أصله ، والباقون لا يشبعون . قال الواحدي - رحمه الله - : " أرجه " مهموز وغير مهموز لغتان ، يقال : أرجأت الأمر وأرجيته إذا أخرته ، ومنه قوله تعالى : ( وآخرون مرجون ) [ التوبة : 106 ] ( ترجي من تشاء ) [ الأحزاب : 51 ] قرئ في الآيتين باللغتين ، وأما قراءة عاصم وحمزة بغير الهمز وسكون الهاء . فقال الفراء : هي لغة العرب يقفون على الهاء المكنى عنها في الوصل إذا تحرك ما قبلها ، وأنشد :
فيصلح اليوم ويفسده غدا
قال : وكذلك يفعلون بهاء التأنيث فيقولون : هذه طلحه قد أقبلت ، وأنشد :
لما رأى أن لا دعه ولا شبع
ثم قال الواحدي : ولا وجه لهذا عند البصريين في القياس . وقال الزجاج : هذا شعر لا نعرف قائله ، ولو قاله شاعر مذكور لقيل له : أخطأت .
المسألة الثانية : في تفسير قوله : ( أرجه ) قولان :
الأول : الإرجاء : التأخير فقوله : ( أرجه ) أي أخره . ومعنى أخره : أي أخر أمره ولا تعجل في أمره بحكم ، فتصير عجلتك حجة عليك ، والمقصود أنهم حاولوا معارضة معجزته بسحرهم ؛ ليكون ذلك أقوى في إبطال قول موسى عليه السلام .
والقول الثاني : وهو قول الكلبي وقتادة ( أرجه ) احبسه . قال المحققون : هذا القول ضعيف لوجهين :
الأول : أن هو التأخير لا الحبس . الإرجاء في اللغة
والثاني : أن فرعون ما كان قادرا على حبس موسى بعد ما شاهد حال العصا .
أما قوله : ( وأرسل في المدائن حاشرين ) ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : هذه الآية تدل على أن السحرة كانوا كثيرين في ذلك الزمان ، وإلا لم يصح قوله : ( وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم ) ويدل على أن في معرفة المعارضة ، وأنها إذا أمكنت فلا نبوة ، وإذا تعذرت فقد صحت النبوة ، وأما بيان أن السحر ما هو وهل له حقيقة أم لا بل هو محض التمويه فقد سبق الاستقصاء فيه في سورة البقرة . طباع الخلق
المسألة الثانية : نقل الواحدي عن أنه قال : اختلف أصحابنا في المدينة على ثلاثة أقوال : أبي القاسم الزجاجي
القول الأول : أنها فعيلة ؛ لأنها مأخوذة من قولهم مدن بالمكان يمدن مدونا ، إذا أقام به ، وهذا القائل يستدل بإطباق القراء على همز المدائن ، وهي فعائل ، كصحائف وصحيفة وسفائن وسفينة ، والياء إذا كانت زائدة في الواحد همزت في الجمع ، كقبائل وقبيلة ، وإذا كانت من نفس الكلمة لم تهمز في الجمع نحو معايش ومعيشة .
والقول الثاني : أنها مفعلة ، وعلى هذا الوجه ، فمعنى المدينة المملوكة ، من دانه يدينه ، فقولنا : مدينة من دان ، مثل معيشة ، من عاش ، وجمعها مداين على مفاعل ، كمعايش غير مهموز ، ويكون اسما للمكان والأرض التي دانهم السلطان فيها أي ساسهم وقهرهم .
[ ص: 163 ] والقول الثالث : قال : مدينة أصلها مديونة ، من دانه إذا قهره وساسه ، فاستثقلوا حركة الضمة على الياء فسكنوها ونقلوا حركتها إلى ما قبلها ، واجتمع ساكنان : الواو المزيدة التي هي واو المفعول ، والياء التي هي من نفس الكلمة ، فحذفت الواو ؛ لأنها زائدة ، وحذف الزائد أولى من حذف الحرف الأصلي ، ثم كسروا الدال لتسلم الياء ، فلا تنقلب واوا لانضمام ما قبلها فيختلط ذوات الواو بذوات الياء ، وهكذا القول في المبيع والمخيط والمكيل . ثم قال المبرد الواحدي : والصحيح أنها فعيلة لاجتماع القراء على همز المدائن .
المسألة الثالثة : ( وأرسل في المدائن حاشرين ) يريد وأرسل في مدائن صعيد مصر رجالا يحشروا إليك ما فيها من السحرة . قال : وكان رؤساء السحرة بأقصى مدائن ابن عباس الصعيد ، ونقل القاضي عن ، أنهم كانوا سبعين ساحرا سوى رئيسهم ، وكان الذي يعلمهم رجلا مجوسيا من ابن عباس أهل نينوى بلدة يونس عليه السلام ، وهي قرية بالموصل . وأقول : هذا النقل مشكل ؛ لأن المجوس أتباع زرادشت ، وزرادشت إنما جاء بعد مجيء موسى عليه السلام .