المقام الثالث : الجواب على سبيل التفصيل ،
للمعتزلة فيه طريقان :
الأول : طريقة
أبي علي وأبي هاشم nindex.php?page=showalam&ids=14959والقاضي عبد الجبار ، فإنا لما قلنا :
nindex.php?page=treesubj&link=20715_20726لو وقع خلاف معلوم الله تعالى لانقلب علمه جهلا ، قالوا خطأ قول من يقول : إنه ينقلب علمه جهلا ، وخطأ أيضا قول من يقول : إنه لا ينقلب ، ولكن يجب الإمساك عن القولين .
والثاني : طريقة
الكعبي واختيار
أبي الحسين البصري : أن العلم تبع المعلوم ، فإذا فرضت الواقع من العبد من الإيمان عرفت أن الحاصل في الأزل لله تعالى هو العلم بالإيمان ، ومتى فرضت الواقع منه هو الكفر بدلا عن الإيمان عرفت أن الحاصل في الأزل هو العلم بالكفر بدلا عن الإيمان ، فهذا فرض علم بدلا عن علم آخر ، لا أنه تغير العلم . فهذان الجوابان هما اللذان عليهما اعتماد جمهور
المعتزلة .
واعلم أن هذا المبحث صار منشأ لضلالات عظيمة : فمنها أن منكري التكاليف والنبوات قالوا : قد سمعنا كلام أهل الجبر فوجدناه قويا قاطعا ، وهذان الجوابان اللذان ذكرهما
المعتزلة يجريان مجرى الخرافة ، ولا يلتفت العاقل إليهما ، وسمعنا كلام
المعتزلة في أن مع القول بالجبر لا يجوز التكليف ويقبح ، والجواب الذي ذكره أهل الجبر ضعيف جدا ، فصار مجموع الكلامين كلاما قويا في نفي التكاليف ، ومتى بطل ذلك بطل القول بالنبوات . ومنها أن الطاعنين في القرآن قالوا : الذي قاله
المعتزلة من الآيات الكثيرة الدالة على أنه لا منع من الإيمان ومن الطاعة فقد صدقوا فيه ، والذي قاله
الجبرية : من أن العلم بعدم الإيمان مانع عنه فقد صدقوا فيه ، فدل على أن القرآن ورد على ضد العقل وعلى خلافه ، وذلك من أعظم المطاعن ، وأقوى القوادح فيه ، ثم من سلم من هؤلاء أن هذا القرآن هو القرآن الذي جاء به
محمد صلى الله عليه وسلم توسل به إلى الطعن فيه ، وقال قوم من
الرافضة : إن هذا الذي عندنا ليس هو القرآن الذي جاء به
محمد بل غير وبدل . والدليل عليه اشتماله على هذه المناقضات التي ظهرت بسبب هذه المناظرة الدائرة بين أهل الجبر وأهل القدر . ومنها أن المقلدة الطاعنين في النظر والاستدلال احتجوا بهذه المناظرة وقالوا : لو جوزنا التمسك بالدلائل العقلية لزم القدح في التكليف والنبوة بسبب هذه المناظرة ، فإن كلام أهل الجبر في نهاية القوة في إثبات الجبر ، وكلام أهل القدر في بيان أنه متى ثبت الجبر بطل التكليف بالكلية في نهاية القوة ، فيتولد من مجموع الكلامين أعظم شبهة في القدح والتكليف والنبوة ، فثبت أن الرجوع إلى العقليات يورث الكفر والضلال ، وعند هذا قيل : من تعمق في الكلام تزندق . ومنها أن
هشام بن الحكم زعم أنه سبحانه لا يعلم الأشياء قبل
[ ص: 43 ] وقوعها ، وجوز البداء على الله تعالى ، وقال : إن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=6إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) إنما وقع على سبيل الاستدلال بالأمارة ، ويجوز له أن يظهر خلاف ما ذكره ، وإنما قال بهذا المذهب فرارا من تلك الإشكالات المتقدمة .
واعلم أن جملة الوجوه التي رويناها عن
المعتزلة كلمات لا تعلق لها بالكشف عن وجه الجواب . بل هي جارية مجرى التشنيعات . فأما الجوابان اللذان عليهما اعتماد القوم ففي نهاية الضعف . أما قول
أبي علي وأبي هشام والقاضي : خطأ قول من يقول إنه يدل ، وخطأ قول من يقول إنه لا يدل ، إن كان المراد منه الحكم بفساد القسمين كان ذلك حكما بفساد النفي والإثبات ، وذلك لا يرتضيه العقل ، وإن كان معناه أن أحدهما حق لكن لا أعرف أن الحق هو أنه يدل أو لا يدل ، كفى في دفعه تقرير وجه الاستدلال ، فإنا لما بينا أن العلم بالعدم لا يحصل إلا مع العدم ، فلو حصل الوجود معه لكان قد اجتمع العدم والوجود معا ولا يتمكن العقل من تقرير كلام أوضح من هذا وأقل مقدمات فيه . وأما قول
الكعبي ففي نهاية الضعف ، لأنا وإن كنا لا ندري أن الله تعالى كان في الأزل عالما بوجود الإيمان أو بعدمه لكنا نعلم أن العلم بأحد هذين الأمرين كان حاصلا ، وهو الآن أيضا حاضر ، فلو حصل مع العلم بأحد النقيضين ذلك النقيض الآخر لزم اجتماع النقيضين ، ولو قيل بأن ذلك العلم لا يبقى كان ذلك اعترافا بانقلاب العلم جهلا ، وهذا آخر الكلام في هذا البحث . واعلم أن الكلام المعنوي هو الذي تقدم ، وبقي في هذا الباب أمور أخرى إقناعية ، ولا بد من ذكرها وهي خمسة :
أحدها : روى
الخطيب في كتاب تاريخ بغداد عن
nindex.php?page=showalam&ids=17104معاذ بن معاذ العنبري ، قال : كنت جالسا عند
nindex.php?page=showalam&ids=16711عمرو بن عبيد ، فأتاه رجل ، فقال : يا
أبا عثمان سمعت والله اليوم بالكفر ، فقال : لا تعجل بالكفر ، وما سمعت ؟ قال : سمعت
هاشما الأوقص يقول : إن (
nindex.php?page=tafseer&surano=111&ayano=1تبت يدا أبي لهب ) [المسد : 1] وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=11ذرني ومن خلقت وحيدا ) [المدثر : 11] إلى قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=26سأصليه سقر ) [المدثر : 26] إن هذا ليس في أم الكتاب والله تعالى يقول : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=1حم nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=2والكتاب المبين ) [الدخان : 2] إلى قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=4وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم ) [الزخرف : 4] فما الكفر إلا هذا يا
أبا عثمان ، فسكت
عمرو هنيهة ثم أقبل علي ، فقال : والله لو كان القول كما يقول ما كان على
أبي لهب من لوم ، ولا على
الوليد من لوم ، فلما سمع الرجل ذلك قال : أتقول يا
أبا عثمان ذلك ، هذا والله الذي قال
معاذ ! فدخل بالإسلام وخرج بالكفر . وحكي أيضا أنه دخل رجل على
nindex.php?page=showalam&ids=16711عمرو بن عبيد ، وقرأ عنده : (
nindex.php?page=tafseer&surano=85&ayano=21بل هو قرآن مجيد nindex.php?page=tafseer&surano=85&ayano=22في لوح محفوظ ) [البروج : 22] فقال له : أخبرني عن ( تبت ) أكانت في اللوح المحفوظ ؟ فقال
عمرو : ليس هكذا كانت ، بل كانت : تبت يدا من عمل بمثل ما عمل
أبو لهب ، فقال له الرجل : هكذا ينبغي أن تقرأ إذا قمنا إلى الصلاة ، فغضب
عمرو وقال : إن علم الله ليس بشيطان ، إن علم الله لا يضر ولا ينفع . وهذه الحكاية تدل على شك
nindex.php?page=showalam&ids=16711عمرو بن عبيد في صحة القرآن .
وثانيها : روى القاضي في كتاب طبقات
المعتزلة عن ابن عمر ، أن رجلا قام إليه ، فقال : يا أبا عبد الرحمن ، إن أقواما يزنون ويسرقون ويشربون الخمر ويقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ويقولون : كان ذلك في علم الله فلم نجد منه بدا ، فغضب ثم قال : سبحان الله العظيم ، قد كان في علمه أنهم يفعلونها ، فلم [ ص: 44 ] يحملهم علم الله على فعلها .
حدثني أبي nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : مثل علم الله فيكم كمثل السماء التي أظلتكم ، والأرض التي أقلتكم ، فكما لا تستطيعون الخروج من السماء والأرض ، فكذلك لا تستطيعون الخروج من علم الله تعالى ، وكما لا تحملكم السماء والأرض على الذنوب ، فكذلك لا يحملكم علم الله تعالى عليها .
واعلم أن في
nindex.php?page=treesubj&link=20351_29439الأخبار التي يرويها الجبرية والقدرية كثرة ، والغرض من رواية هذا الحديث بيان أنه لا يليق بالرسول أن يقول مثل ذلك ، وذلك لأنه متناقض وفاسد ، أما المتناقض فلأن قوله : "
وكذلك لا تستطيعون الخروج من علم الله " صريح في الجبر ، وما قبله صريح في القدر ، فهو متناقض ، وأما أنه فاسد ، فلأنا بينا أن العلم بعدم الإيمان ووجود الإيمان متنافيان ، فالتكليف بالإيمان مع وجود العلم بعدم الإيمان تكليف بالجمع بين النفي والإثبات ، أما السماء والأرض فإنهما لا ينافيان شيئا من الأعمال ، فظهر أن تشبيه إحدى الصورتين بالأخرى لا يصدر إلا عن جاهل أو متجاهل ، وجل منصب الرسالة عنه .
وثالثها : الحديثان المشهوران في هذا الباب : أما الحديث الأول : فهو ما روي في الصحيحين عن
nindex.php?page=showalam&ids=13726الأعمش ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=15950زيد بن وهب ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011336إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل الله إليه ملكا ، فينفخ فيه الروح ، فيؤمر بأربع كلمات : فيكتب رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أم سعيد ، فوالله الذي لا إله غيره ، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة ، فيدخلها " وحكى
الخطيب في تاريخ بغداد ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16711عمرو بن عبيد ، أنه قال : لو سمعت
nindex.php?page=showalam&ids=13726الأعمش يقول هذا لكذبته ، ولو سمعت
nindex.php?page=showalam&ids=15950زيد بن وهب يقول هذا ما أحببته ، ولو سمعت
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود يقول هذا ما قبلته ، ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا لرددته ، ولو سمعت الله عز وجل يقول هذا لقلت : ليس على هذا أخذت ميثاقنا .
وأما الحديث الثاني : فهو
nindex.php?page=treesubj&link=30453مناظرة آدم وموسى عليهما السلام ، فإن
موسى قال
لآدم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011337أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة ؟ فقال آدم : أنت الذي اصطفاك الله لرسالاته ولكلامه ، وأنزل عليك التوراة ، فهل تجد الله قدره علي ؟ قال : نعم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فحج آدم موسى ،
والمعتزلة طعنوا فيه من وجوه :
أحدها : أن هذا الخبر يقتضي أن يكون
موسى قد ذم
آدم على الصغيرة ، وذلك يقتضي الجهل في حق
موسى عليه السلام ، وأنه غير جائز .
وثانيها : أن الولد كيف يشافه والده بالقول الغليظ .
وثالثها : أنه قال : أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة ، وقد علم
موسى أن شقاء الخلق وإخراجهم من الجنة لم يكن من جهة
آدم ، بل الله أخرجه منها .
ورابعها : أن
آدم - عليه السلام - احتج بما ليس بحجة إذ لو كان حجة لكان
لفرعون وهامان وسائر الكفار أن يحتجوا بها ، ولما بطل ذلك علمنا فساد هذه الحجة .
وخامسها : أن الرسول عليه السلام صوب
آدم في ذلك مع أنا بينا أنه ليس بصواب .
إذا ثبت هذا وجب حمل الحديث على أحد ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه - عليه السلام - حكى ذلك عن
اليهود ، لا أنه حكاه عن الله تعالى أو عن نفسه ، والرسول عليه السلام كان قد ذكر هذه الحكاية إلا أن الراوي حين دخل ما سمع إلا هذا الكلام ، فظن أنه عليه السلام ذكره عن نفسه لا عن
اليهود .
وثانيها : أنه قال : " فحج
آدم " منصوبا ، أي أن
موسى عليه السلام غلبه وجعله محجوجا ، وأن الذي أتى به
آدم ليس بحجة ولا بعذر .
وثالثها : وهو المعتمد أنه ليس المراد من المناظرة الذم على المعصية ، ولا الاعتذار منه بعلم الله ، بل
موسى - عليه السلام - سأله عن السبب
[ ص: 45 ] الذي حمله على تلك الزلة حتى خرج بسببها من الجنة ، فقال
آدم : إن خروجي من الجنة لم يكن بسبب تلك الزلة ، بل بسبب أن الله تعالى كان قد كتب علي أن أخرج من الجنة إلى الأرض وأكون خليفة فيها ، وهذا المعنى كان مكتوبا في التوراة ، فلا جرم كانت حجة
آدم قوية ، وصار
موسى عليه السلام في ذلك كالمغلوب ، واعلم أن الكلام في هذه المسألة طويل جدا ، والقرآن مملوء منه ، وسنستقصي القول فيها في هذا التفسير إن قدر الله تعالى ذلك ؛ وفيما ذكرنا ههنا كفاية .
الْمَقَامُ الثَّالِثُ : الْجَوَابُ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ ،
لِلْمُعْتَزِلَةِ فِيهِ طَرِيقَانِ :
الْأَوَّلُ : طَرِيقَةُ
أَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ nindex.php?page=showalam&ids=14959وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ ، فَإِنَّا لَمَّا قُلْنَا :
nindex.php?page=treesubj&link=20715_20726لَوْ وَقَعَ خِلَافُ مَعْلُومِ اللَّهِ تَعَالَى لَانْقَلَبَ عِلْمُهُ جَهْلًا ، قَالُوا خَطَأٌ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : إِنَّهُ يَنْقَلِبُ عِلْمُهُ جَهْلًا ، وَخَطَأٌ أَيْضًا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : إِنَّهُ لَا يَنْقَلِبُ ، وَلَكِنْ يَجِبُ الْإِمْسَاكُ عَنِ الْقَوْلَيْنِ .
وَالثَّانِي : طَرِيقَةُ
الْكَعْبِيِّ وَاخْتِيَارُ
أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ : أَنَّ الْعِلْمَ تَبَعُ الْمَعْلُومِ ، فَإِذَا فَرَضْتَ الْوَاقِعَ مِنَ الْعَبْدِ مِنَ الْإِيمَانِ عَرَفْتَ أَنَّ الْحَاصِلَ فِي الْأَزَلِ لِلَّهِ تَعَالَى هُوَ الْعِلْمُ بِالْإِيمَانِ ، وَمَتَى فَرَضْتَ الْوَاقِعَ مِنْهُ هُوَ الْكُفْرُ بَدَلًا عَنِ الْإِيمَانِ عَرَفْتَ أَنَّ الْحَاصِلَ فِي الْأَزَلِ هُوَ الْعِلْمُ بِالْكُفْرِ بَدَلًا عَنِ الْإِيمَانِ ، فَهَذَا فَرْضُ عِلْمٍ بَدَلًا عَنْ عِلْمٍ آخَرَ ، لَا أَنَّهُ تَغَيَّرَ الْعِلْمُ . فَهَذَانِ الْجَوَابَانِ هُمَا اللَّذَانِ عَلَيْهِمَا اعْتِمَادُ جُمْهُورِ
الْمُعْتَزِلَةِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمَبْحَثَ صَارَ مَنْشَأً لِضَلَالَاتٍ عَظِيمَةٍ : فَمِنْهَا أَنَّ مُنْكِرِي التَّكَالِيفِ وَالنُّبُوَّاتِ قَالُوا : قَدْ سَمِعْنَا كَلَامَ أَهْلِ الْجَبْرِ فَوَجَدْنَاهُ قَوِيًّا قَاطِعًا ، وَهَذَانِ الْجَوَابَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا
الْمُعْتَزِلَةُ يَجْرِيَانِ مَجْرَى الْخُرَافَةِ ، وَلَا يَلْتَفِتُ الْعَاقِلُ إِلَيْهِمَا ، وَسَمِعْنَا كَلَامَ
الْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّ مَعَ الْقَوْلِ بِالْجَبْرِ لَا يَجُوزُ التَّكْلِيفُ وَيُقَبَّحُ ، وَالْجَوَابُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَهْلُ الْجَبْرِ ضَعِيفٌ جِدًّا ، فَصَارَ مَجْمُوعُ الْكَلَامَيْنِ كَلَامًا قَوِيًّا فِي نَفْيِ التَّكَالِيفِ ، وَمَتَّى بَطَلَ ذَلِكَ بَطَلَ الْقَوْلُ بِالنُّبُوَّاتِ . وَمِنْهَا أَنَّ الطَّاعِنِينَ فِي الْقُرْآنِ قَالُوا : الَّذِي قَالَهُ
الْمُعْتَزِلَةُ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنَ الْإِيمَانِ وَمِنَ الطَّاعَةِ فَقَدْ صَدَقُوا فِيهِ ، وَالَّذِي قَالَهُ
الْجَبْرِيَّةُ : مِنْ أَنَّ الْعِلْمَ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ مَانِعٌ عَنْهُ فَقَدْ صَدَقُوا فِيهِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ وَرَدَ عَلَى ضِدِّ الْعَقْلِ وَعَلَى خِلَافِهِ ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَطَاعِنِ ، وَأَقْوَى الْقَوَادِحِ فِيهِ ، ثُمَّ مَنْ سَلَّمَ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي جَاءَ بِهِ
مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَسَّلَ بِهِ إِلَى الطَّعْنِ فِيهِ ، وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ
الرَّافِضَةِ : إِنَّ هَذَا الَّذِي عِنْدَنَا لَيْسَ هُوَ الْقُرْآنَ الَّذِي جَاءَ بِهِ
مُحَمَّدٌ بَلْ غُيِّرَ وَبُدِّلَ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ اشْتِمَالُهُ عَلَى هَذِهِ الْمُنَاقَضَاتِ الَّتِي ظَهَرَتْ بِسَبَبِ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةِ الدَّائِرَةِ بَيْنَ أَهْلِ الْجَبْرِ وَأَهْلِ الْقَدَرِ . وَمِنْهَا أَنَّ الْمُقَلِّدَةَ الطَّاعِنِينَ فِي النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْمُنَاظَرَةِ وَقَالُوا : لَوْ جَوَّزْنَا التَّمَسُّكَ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ لَزِمَ الْقَدْحُ فِي التَّكْلِيفِ وَالنُّبُوَّةِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةِ ، فَإِنَّ كَلَامَ أَهْلِ الْجَبْرِ فِي نِهَايَةِ الْقُوَّةِ فِي إِثْبَاتِ الْجَبْرِ ، وَكَلَامَ أَهْلِ الْقَدَرِ فِي بَيَانِ أَنَّهُ مَتَى ثَبَتَ الْجَبْرُ بَطَلَ التَّكْلِيفُ بِالْكُلِّيَّةِ فِي نِهَايَةِ الْقُوَّةِ ، فَيَتَوَلَّدُ مِنْ مَجْمُوعِ الْكَلَامَيْنِ أَعْظَمُ شُبْهَةٍ فِي الْقَدْحِ وَالتَّكْلِيفِ وَالنُّبُوَّةِ ، فَثَبَتَ أَنَّ الرُّجُوعَ إِلَى الْعَقْلِيَّاتِ يُورِثُ الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ ، وَعِنْدَ هَذَا قِيلَ : مَنْ تَعَمَّقَ فِي الْكَلَامِ تَزَنْدَقَ . وَمِنْهَا أَنَّ
هِشَامَ بْنَ الْحَكَمِ زَعَمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ
[ ص: 43 ] وُقُوعِهَا ، وَجَوَّزَ الْبَدَاءَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَالَ : إِنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=6إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ) إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَمَارَةِ ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُظْهِرَ خِلَافَ مَا ذَكَرَهُ ، وَإِنَّمَا قَالَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ فِرَارًا مِنْ تِلْكَ الْإِشْكَالَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ جُمْلَةَ الْوُجُوهِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا عَنِ
الْمُعْتَزِلَةِ كَلِمَاتٌ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْكَشْفِ عَنْ وَجْهِ الْجَوَابِ . بَلْ هِيَ جَارِيَةٌ مَجْرَى التَّشْنِيعَاتِ . فَأَمَّا الْجَوَابَانِ اللَّذَانِ عَلَيْهِمَا اعْتِمَادُ الْقَوْمِ فَفِي نِهَايَةِ الضَّعْفِ . أَمَّا قَوْلُ
أَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي هِشَامٍ وَالْقَاضِي : خَطَأٌ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ يَدُلُّ ، وَخَطَأٌ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ لَا يَدُلُّ ، إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْحُكْمَ بِفَسَادِ الْقِسْمَيْنِ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا بِفَسَادِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ ، وَذَلِكَ لَا يَرْتَضِيهِ الْعَقْلُ ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ أَحَدَهُمَا حَقٌّ لَكِنْ لَا أَعْرِفُ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ أَنَّهُ يَدُلُّ أَوْ لَا يَدُلُّ ، كَفَى فِي دَفْعِهِ تَقْرِيرُ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ ، فَإِنَّا لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعَدَمِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مَعَ الْعَدَمِ ، فَلَوْ حَصَلَ الْوُجُودُ مَعَهُ لَكَانَ قَدِ اجْتَمَعَ الْعَدَمُ وَالْوُجُودُ مَعًا وَلَا يَتَمَكَّنُ الْعَقْلُ مِنْ تَقْرِيرِ كَلَامٍ أَوْضَحَ مِنْ هَذَا وَأَقَلِّ مُقَدِّمَاتٍ فِيهِ . وَأَمَّا قَوْلُ
الْكَعْبِيِّ فَفِي نِهَايَةِ الضَّعْفِ ، لِأَنَّا وَإِنْ كُنَّا لَا نَدْرِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ فِي الْأَزَلِ عَالِمًا بِوُجُودِ الْإِيمَانِ أَوْ بِعَدَمِهِ لَكُنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْعِلْمَ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ كَانَ حَاصِلًا ، وَهُوَ الْآنَ أَيْضًا حَاضِرٌ ، فَلَوْ حَصَلَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَحَدِ النَّقِيضَيْنِ ذَلِكَ النَّقِيضُ الْآخَرُ لَزِمَ اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ ، وَلَوْ قِيلَ بِأَنَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ لَا يَبْقَى كَانَ ذَلِكَ اعْتِرَافًا بِانْقِلَابِ الْعِلْمِ جَهْلًا ، وَهَذَا آخِرُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَحْثِ . وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ الْمَعْنَوِيَّ هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ ، وَبَقِيَ فِي هَذَا الْبَابِ أُمُورٌ أُخْرَى إِقْنَاعِيَّةٌ ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهَا وَهِيَ خَمْسَةٌ :
أَحَدُهَا : رَوَى
الْخَطِيبُ فِي كِتَابِ تَارِيخِ بَغْدَادَ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=17104مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيِّ ، قَالَ : كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ
nindex.php?page=showalam&ids=16711عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ ، فَقَالَ : يَا
أَبَا عُثْمَانَ سَمِعْتُ وَاللَّهِ الْيَوْمَ بِالْكُفْرِ ، فَقَالَ : لَا تُعَجِّلُ بِالْكُفْرِ ، وَمَا سَمِعْتَ ؟ قَالَ : سَمِعْتُ
هَاشِمًا الْأَوْقَصَ يَقُولُ : إِنَّ (
nindex.php?page=tafseer&surano=111&ayano=1تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ) [الْمَسَدِ : 1] وَقَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=11ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ) [الْمُدَّثِّرِ : 11] إِلَى قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=26سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ) [الْمُدَّثِّرِ : 26] إِنَّ هَذَا لَيْسَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=1حم nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=2وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ) [الدُّخَانِ : 2] إِلَى قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=4وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) [الزُّخْرُفِ : 4] فَمَا الْكُفْرُ إِلَّا هَذَا يَا
أَبَا عُثْمَانَ ، فَسَكَتَ
عَمْرٌو هُنَيْهَةً ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ ، فَقَالَ : وَاللَّهِ لَوْ كَانَ الْقَوْلُ كَمَا يَقُولُ مَا كَانَ عَلَى
أَبِي لَهَبٍ مِنْ لَوْمٍ ، وَلَا عَلَى
الْوَلِيدِ مِنْ لَوْمٍ ، فَلَمَّا سَمِعَ الرَّجُلُ ذَلِكَ قَالَ : أَتَقُولُ يَا
أَبَا عُثْمَانَ ذَلِكَ ، هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي قَالَ
مُعَاذٌ ! فَدَخَلَ بِالْإِسْلَامِ وَخَرَجَ بِالْكُفْرِ . وَحُكِيَ أَيْضًا أَنَّهُ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى
nindex.php?page=showalam&ids=16711عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ ، وَقَرَأَ عِنْدَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=85&ayano=21بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ nindex.php?page=tafseer&surano=85&ayano=22فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ) [الْبُرُوجِ : 22] فَقَالَ لَهُ : أَخْبِرْنِي عَنْ ( تَبَّتْ ) أَكَانَتْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ؟ فَقَالَ
عَمْرٌو : لَيْسَ هَكَذَا كَانَتْ ، بَلْ كَانَتْ : تَبَّتْ يَدَا مَنْ عَمِلَ بِمِثْلِ مَا عَمِلَ
أَبُو لَهَبٍ ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ : هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تُقْرَأَ إِذَا قُمْنَا إِلَى الصَّلَاةِ ، فَغَضِبَ
عَمْرٌو وَقَالَ : إِنَّ عِلْمَ اللَّهِ لَيْسَ بِشَيْطَانٍ ، إِنَّ عِلْمَ اللَّهِ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ . وَهَذِهِ الْحِكَايَةُ تَدُلُّ عَلَى شَكِّ
nindex.php?page=showalam&ids=16711عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ فِي صِحَّةِ الْقُرْآنِ .
وَثَانِيهَا : رَوَى الْقَاضِي فِي كِتَابِ طَبَقَاتِ
الْمُعْتَزِلَةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّ رَجُلًا قَامَ إِلَيْهِ ، فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، إِنَّ أَقْوَامًا يَزْنُونَ وَيَسْرِقُونَ وَيَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَيَقُولُونَ : كَانَ ذَلِكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ فَلَمْ نَجِدْ مِنْهُ بُدًّا ، فَغَضِبَ ثُمَّ قَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ ، قَدْ كَانَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَهَا ، فَلَمْ [ ص: 44 ] يَحْمِلْهُمْ عِلْمُ اللَّهِ عَلَى فِعْلِهَا .
حَدَّثَنِي أَبِي nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَثَلُ عِلْمِ اللَّهِ فِيكُمْ كَمَثَلِ السَّمَاءِ الَّتِي أَظَلَّتْكُمْ ، وَالْأَرْضِ الَّتِي أَقَلَّتْكُمْ ، فَكَمَا لَا تَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، فَكَذَلِكَ لَا تَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَكَمَا لَا تَحْمِلُكُمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ عَلَى الذُّنُوبِ ، فَكَذَلِكَ لَا يَحْمِلُكُمْ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهَا .
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=20351_29439الْأَخْبَارِ الَّتِي يَرْوِيهَا الْجَبْرِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ كَثْرَةٌ ، وَالْغَرَضُ مِنْ رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِالرَّسُولِ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مُتَنَاقِضٌ وَفَاسِدٌ ، أَمَّا الْمُتَنَاقِضُ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ : "
وَكَذَلِكَ لَا تَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ " صَرِيحٌ فِي الْجَبْرِ ، وَمَا قَبْلَهُ صَرِيحٌ فِي الْقَدَرِ ، فَهُوَ مُتَنَاقِضٌ ، وَأَمَّا أَنَّهُ فَاسِدٌ ، فَلِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْعِلْمَ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ وَوُجُودَ الْإِيمَانِ مُتَنَافِيَانِ ، فَالتَّكْلِيفُ بِالْإِيمَانِ مَعَ وُجُودِ الْعِلْمِ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ تَكْلِيفٌ بِالْجَمْعِ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ ، أَمَّا السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ فَإِنَّهُمَا لَا يُنَافِيَانِ شَيْئًا مِنَ الْأَعْمَالِ ، فَظَهَرَ أَنَّ تَشْبِيهَ إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ بِالْأُخْرَى لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ جَاهِلٍ أَوْ مُتَجَاهِلٍ ، وَجُلُّ مَنْصِبِ الرِّسَالَةِ عَنْهُ .
وَثَالِثُهَا : الْحَدِيثَانِ الْمَشْهُورَانِ فِي هَذَا الْبَابِ : أَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : فَهُوَ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=13726الْأَعْمَشِ ، عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=15950زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ ، عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=10عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011336إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا ، فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ ، فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ : فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ ، وَأَجَلَهُ ، وَعَمَلَهُ ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ ، فَوَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ ، إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَيَدْخُلُهَا " وَحَكَى
الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِ بَغْدَادَ ، عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=16711عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ ، أَنَّهُ قَالَ : لَوْ سَمِعْتُ
nindex.php?page=showalam&ids=13726الْأَعْمَشَ يَقُولُ هَذَا لَكَذَّبْتُهُ ، وَلَوْ سَمِعْتُ
nindex.php?page=showalam&ids=15950زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ يَقُولُ هَذَا مَا أَحْبَبْتُهُ ، وَلَوْ سَمِعْتُ
nindex.php?page=showalam&ids=10عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ هَذَا مَا قَبِلْتُهُ ، وَلَوْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ هَذَا لَرَدَدْتُهُ ، وَلَوْ سَمِعْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ هَذَا لَقُلْتُ : لَيْسَ عَلَى هَذَا أَخَذْتَ مِيثَاقَنَا .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي : فَهُوَ
nindex.php?page=treesubj&link=30453مُنَاظَرَةُ آدَمَ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ، فَإِنَّ
مُوسَى قَالَ
لِآدَمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011337أَنْتَ الَّذِي أَشْقَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ؟ فَقَالَ آدَمُ : أَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ لِرِسَالَاتِهِ وَلِكَلَامِهِ ، وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ التَّوْرَاةَ ، فَهَلْ تَجِدُ اللَّهَ قَدَّرَهُ عَلَيَّ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ،
وَالْمُعْتَزِلَةُ طَعَنُوا فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ
مُوسَى قَدْ ذَمَّ
آدَمَ عَلَى الصَّغِيرَةِ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْجَهْلَ فِي حَقِّ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ .
وَثَانِيهَا : أَنَّ الْوَلَدَ كَيْفَ يُشَافِهُ وَالِدَهُ بِالْقَوْلِ الْغَلِيظِ .
وَثَالِثُهَا : أَنَّهُ قَالَ : أَنْتَ الَّذِي أَشْقَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ، وَقَدْ عَلِمَ
مُوسَى أَنَّ شَقَاءَ الْخَلْقِ وَإِخْرَاجَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِهَةِ
آدَمَ ، بَلِ اللَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْهَا .
وَرَابِعُهَا : أَنَّ
آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - احْتَجَّ بِمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ إِذْ لَوْ كَانَ حُجَّةً لَكَانَ
لِفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَسَائِرِ الْكُفَّارِ أَنْ يَحْتَجُّوا بِهَا ، وَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ عَلِمْنَا فَسَادَ هَذِهِ الْحُجَّةِ .
وَخَامِسُهَا : أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَوَّبَ
آدَمَ فِي ذَلِكَ مَعَ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِصَوَابٍ .
إِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَكَى ذَلِكَ عَنِ
الْيَهُودِ ، لَا أَنَّهُ حَكَاهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ عَنْ نَفْسِهِ ، وَالرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْحِكَايَةَ إِلَّا أَنَّ الرَّاوِيَ حِينَ دَخَلَ مَا سَمِعَ إِلَّا هَذَا الْكَلَامَ ، فَظَنَّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَهُ عَنْ نَفْسِهِ لَا عَنِ
الْيَهُودِ .
وَثَانِيهَا : أَنَّهُ قَالَ : " فَحَجَّ
آدَمَ " مَنْصُوبًا ، أَيْ أَنَّ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ غَلَبَهُ وَجَعَلَهُ مَحْجُوجًا ، وَأَنَّ الَّذِي أَتَى بِهِ
آدَمُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَلَا بِعُذْرٍ .
وَثَالِثُهَا : وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْمُنَاظَرَةِ الذَّمَّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ، وَلَا الِاعْتِذَارَ مِنْهُ بِعِلْمِ اللَّهِ ، بَلْ
مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَأَلَهُ عَنِ السَّبَبِ
[ ص: 45 ] الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى تِلْكَ الزَّلَّةِ حَتَّى خَرَجَ بِسَبَبِهَا مِنَ الْجَنَّةِ ، فَقَالَ
آدَمُ : إِنَّ خُرُوجِي مِنَ الْجَنَّةِ لَمْ يَكُنْ بِسَبَبِ تِلْكَ الزَّلَّةِ ، بَلْ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ قَدْ كَتَبَ عَلَيَّ أَنْ أَخْرُجَ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ وَأَكُونَ خَلِيفَةً فِيهَا ، وَهَذَا الْمَعْنَى كَانَ مَكْتُوبًا فِي التَّوْرَاةِ ، فَلَا جَرَمَ كَانَتْ حُجَّةُ
آدَمَ قَوِيَّةً ، وَصَارَ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَلِكَ كَالْمَغْلُوبِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ طَوِيلٌ جِدًّا ، وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْهُ ، وَسَنَسْتَقْصِي الْقَوْلَ فِيهَا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ إِنْ قَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ ؛ وَفِيمَا ذَكَرْنَا هَهُنَا كِفَايَةٌ .