( فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم )
قوله تعالى :( فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم )
أما قوله :( فإن تولوا ) يريد المشركين والمنافقين . ثم قيل :( تولوا ) أي : أعرضوا عنك . وقيل : تولوا عن طاعة الله تعالى وتصديق الرسول - عليه الصلاة والسلام - . وقيل : تولوا عن قبول التكاليف الشاقة المذكورة في هذه السورة ، وقيل : تولوا عن نصرتك في الجهاد . واعلم أن المقصود من هذه الآية بيان ؛ لأن الله حسبه وكافيه في نصره على الأعداء ، وفي إيصاله إلى مقامات الآلاء والنعماء( أن الكفار لو أعرضوا ولم يقبلوا هذه التكاليف ، لم يدخل في قلب الرسول حزن ولا أسف لا إله إلا هو ) وإذا كان لا إله إلا هو وجب أن يكون لا مبدئ لشيء من الممكنات ولا محدث لشيء من المحدثات إلا هو ، وإذا كان هو الذي أرسلني بهذه الرسالة وأمرني بهذا التبليغ ، كانت النصرة عليه والمعونة مرتقبة منه .
ثم قال :( عليه توكلت ) وهو يفيد الحصر أي لا أتوكل إلا عليه( وهو رب العرش العظيم ) ، والسبب في تخصيصه بالذكر أنه كلما كانت الآثار أعظم وأكرم ، كان ظهور جلالة المؤثر في العقل والخاطر أعظم ، ولما كان أعظم الأجسام هو العرش كان المقصود من ذكره تعظيم جلال الله سبحانه .
[ ص: 189 ] فإن قالوا : العرش غير محسوس فلا يعرف وجوده إلا بعد ثبوت الشريعة فكيف يمكن ذكره في معرض شرح عظمة الله تعالى ؟
قلنا : أمر مشهور والكفار سمعوه من وجود العرش اليهود والنصارى ، ولا يبعد أيضا أنهم كانوا قد سمعوه من أسلافهم ومن الناس من قرأ قوله : ( العظيم ) بالرفع ليكون صفة للرب سبحانه . قال أبو بكر : وهذه القراءة أعجب ؛ لأن جعل العظيم صفة لله تعالى أولى من جعله صفة للعرش ، وأيضا فإن جعلناه صفة للعرش ، كان المراد من كونه عظيما كبر جرمه وعظم حجمه واتساع جوانبه على ما هو مذكور في الأخبار ، وإن جعلناه صفة لله سبحانه ، كان المراد من العظمة وجوب الوجود والتقديس عن الحجمية والأجزاء والأبعاض ، وكمال العلم والقدرة ، وكونه منزها عن أن يتمثل في الأوهام أو تصل إليه الأفهام . وقال الحسن : هاتان الآيتان آخر ما أنزل الله من القرآن ، وما أنزل بعدهما قرآن . وقال : أحدث القرآن عهدا بالله عز وجل هاتان الآيتان ، وهو قول أبي بن كعب ، ومنهم من يقول : سعيد بن جبير قوله تعالى :( آخر ما أنزل من القرآن واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ) ( البقرة : 281 ) .
ونقل عن حذيفة أنه قال : أنتم تسمون هذه السورة بالتوبة ، وهي سورة العذاب ، ما تركت أحدا إلا نالت منه ، والله ما تقرأون ربعها .
اعلم أن هذه الرواية يجب تكذيبها ؛ لأنا لو جوزنا ذلك لكان ذلك دليلا على تطرق الزيادة والنقصان إلى القرآن ، وذلك يخرجه عن كونه حجة ، ولا خفاء أن القول به باطل ، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده .
وهذا آخر تفسير هذه السورة ولله الحمد والشكر .
فرغ المؤلف رحمه الله من تفسيرها في يوم الجمعة الرابع عشر من رمضان سنة إحدى وستمائة والحمد لله وحده والصلاة على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .
تم الجزء الخامس عشر ، ويليه إن شاء الله تعالى الجزء السادس عشر ، وأوله قوله تعالى( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ) من أول سورة يونس ، أعان الله على إكماله .