( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون )
قوله تعالى : ( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون )
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم تعجبوا من الوحي والبعثة والرسالة ، ثم إنه تعالى أزال ذلك التعجب بأنه لا يبعد البتة في أن يبعث خالق الخلق إليهم رسولا يبشرهم على الأعمال الصالحة بالثواب ، وعلى الأعمال الباطلة الفاسدة بالعقاب ، كان هذا الجواب إنما يتم ويكمل بإثبات أمرين ، أحدهما : إثبات أن لهذا العالم إلها قاهرا قادرا نافذ الحكم بالأمر والنهي والتكليف . والثاني : إثبات الحشر والنشر والبعث والقيامة ، حتى يحصل الثواب والعقاب اللذان أخبر الأنبياء عن حصولهما ، فلا جرم أنه سبحانه ذكر في هذا الموضع ما يدل على تحقيق هذين المطلوبين .
أما الأول : وهو ، فبقوله تعالى : ( إثبات الإلهية إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض ) .
وأما الثاني : وهو . فبقوله : ( إثبات المعاد والحشر والنشر إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا ) [ يونس : 4 ] فثبت أن هذا الترتيب في غاية الحسن ونهاية الكمال . وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قد ذكرنا في هذا الكتاب وفي الكتب العقلية أن ، إما الإمكان وإما الحدوث ، وكلاهما إما في الذوات وإما في الصفات ، فيكون مجموع الطرق الدالة على وجود الصانع أربعة ، وهي : إمكان الذوات ، وإمكان الصفات ، وحدوث الذوات ، وحدوث الصفات . وهذه الأربعة معتبرة تارة في العالم العلوي وهو عالم السماوات والكواكب ، وتارة في العالم السفلي ، والأغلب من الدلائل المذكورة في الكتب الإلهية التمسك بإمكان الصفات وحدوثها تارة في أحوال العالم العلوي ، وتارة في أحوال العالم السفلي ، والمذكور في هذا الموضع هو التمسك بإمكان الأجرام العلوية في مقاديرها وصفاتها ، وتقريره من وجوه : الدليل الدال على وجود الصانع تعالى
الأول : أن أجرام الأفلاك لا شك أنها مركبة من الأجزاء التي لا تتجزى ، ومتى كان الأمر كذلك كانت لا محالة محتاجة إلى الخالق والمقدر .
أما بيان المقام الأول : فهو أن أجرام الأفلاك لا شك أنها قابلة للقسمة الوهمية ، وقد دللنا في الكتب [ ص: 9 ] العقلية على أن كل ما كان قابلا للقسمة الوهمية ، فإنه يكون مركبا من الأجزاء والأبعاض . ودللنا على أن الذي تقوله الفلاسفة من أن الجسم قابل للقسمة ، ولكنه يكون في نفسه شيئا واحدا ، كلام فاسد باطل . فثبت بما ذكرنا أن أجرام الأفلاك مركبة من الأجزاء التي لا تتجزى ، وإذا ثبت هذا وجب افتقارها إلى خالق ومقدر ، وذلك لأنها لما تركبت فقد وقع بعض تلك الأجزاء في داخل ذلك الجرم ، وبعضها حصلت على سطحها ، وتلك الأجزاء متساوية في الطبع والماهية والحقيقة ، والفلاسفة أقروا لنا بصحة هذه المقدمة حيث قالوا : إنها بسائط ، ويمتنع كونها مركبة من أجزاء مختلفة الطبائع .
وإذا ثبت هذا فنقول : حصول بعضها في الداخل ، وحصول بعضها في الخارج أمر ممكن الحصول جائز الثبوت ، يجوز أن ينقلب الظاهر باطنا والباطن ظاهرا . وإذا كان الأمر كذلك وجب افتقار هذه الأجزاء حال تركيبها إلى مدبر وقاهر ، يخصص بعضها بالداخل وبعضها بالخارج ، فدل هذا على أن الأفلاك مفتقرة في تركيبها وأشكالها وصفاتها إلى مدبر قدير عليم حكيم .
الوجه الثاني في أن نقول : حركات هذه الأفلاك لها بداية ، ومتى كان الأمر كذلك افتقرت هذه الأفلاك في حركاتها إلى محرك ومدبر قاهر . الاستدلال بصفات الأفلاك على وجود الإله القادر
أما المقام الأول : فالدليل على صحته أن الحركة عبارة عن التغير من حال إلى حال ، وهذه الماهية تقتضي المسبوقية بالحالة المنتقل عنها ، والأزل ينافي المسبوقية بالغير ، فكان الجمع بين الحركة وبين الأزل محالا ، فثبت أن لحركات الأفلاك أولا ، وإذا ثبت هذا وجب أن يقال : هذه الأجرام الفلكية كانت معدومة في الأزل وإن كانت موجودة ، لكنها كانت واقفة وساكنة وما كانت متحركة . وعلى التقديرين فلحركاتها أول وبداية .
وأما المقام الثاني : وهو أنه لما كان الأمر كذلك وجب افتقارها إلى مدبر قاهر ، فالدليل عليه أن ابتداء هذه الأجرام بالحركة في ذلك الوقت المعين دون ما قبله ودون ما بعده ، لا بد وأن يكون لتخصيص مخصص وترجيح مرجح . وذلك المرجح يمتنع أن يكون موجبا بالذات ، وإلا لحصلت تلك الحركة قبل ذلك الوقت ؛ لأجل أن موجب تلك الحركة كان حاصلا قبل ذلك الوقت ، ولما بطل هذا ثبت أن ذلك المرجح قادر مختار ، وهو المطلوب .
الوجه الثالث في الاستدلال بصفات الأفلاك على وجود الإله المختار ، وهو أن أجزاء الفلك حاصلة فيه لا في الفلك الآخر ، وأجزاء الفلك الآخر حاصلة فيه لا في الفلك الأول . فاختصاص كل واحد منها بتلك الأجزاء أمر ممكن ، ولا بد له من مرجح ، ويعود التقرير الأول فيه . فهذا تقرير هذا الدليل الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية ، وفي الآية سؤالات :
السؤال الأول : أن كلمة ( الذي ) كلمة وضعت للإشارة إلى شيء مفرد عند محاولة تعريفه بقضية معلومة ، كما إذا قيل لك : من زيد ؟ فتقول : الذي أبوه منطلق ، فهذا التعريف إنما يحسن لو كان كون أبيه منطلقا أمرا معلوما عند السامع ، فهنا لما قال : ( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ) فهذا إنما يحسن لو كان عند السامع ، والعرب ما كانوا عالمين بذلك ، فكيف يحسن هذا التعريف ؟ [ ص: 10 ] كونه سبحانه وتعالى خالقا للسماوات والأرض في ستة أيام أمرا معلوما
وجوابه أن يقال : هذا الكلام مشهور عند اليهود والنصارى ؛ لأنه مذكور في أول ما يزعمون أنه هو التوراة . ولما كان ذلك مشهورا عندهم والعرب كانوا يخالطونهم ، فالظاهر أنهم أيضا سمعوه منهم ، فلهذا السبب حسن هذا التعريف .
السؤال الثاني : ما ؟ الفائدة في بيان الأيام التي خلقها الله فيها
والجواب : أنه تعالى قادر على خلق جميع العالم في أقل من لمح البصر . والدليل عليه أن العالم مركب من الأجزاء التي لا تتجزى ، والجزء الذي لا يتجزى لا يمكن إيجاده إلا دفعة ؛ لأنا لو فرضنا أن إيجاده إنما يحصل في زمان ، فذلك الزمان منقسم لا محالة من آنات متعاقبة ، فهل حصل شيء من ذلك الإيجاد في الآن الأول أو لم يحصل ؟ فإن لم يحصل منه شيء في الآن الأول فهو خارج عن مدة الإيجاد ، وإن حصل في ذلك الآن إيجاد شيء وحصل في الآن الثاني إيجاد شيء آخر ، فهما إن كانا جزأين من ذلك الجزء الذي لا يتجزى ، فحينئذ يكون الجزء الذي لا يتجزى متجزئا . وهو محال . وإن كان شيئا آخر ، فحينئذ يكون إيجاد الجزء الذي لا يتجزى لا يمكن إلا في آن واحد دفعة واحدة ، وكذا القول في إيجاد جميع الأجزاء . فثبت أنه تعالى قادر على إيجاد جميع العالم دفعة واحدة ، ولا شك أيضا أنه تعالى قادر على إيجاده وتكوينه على التدريج .
وإذا ثبت هذا فنقول : هاهنا مذهبان :
الأول : قول أصحابنا ، وهو أنه يحسن منه كل ما أراد ، ولا يعلل شيء من أفعاله بشيء من الحكمة والمصالح ، وعلى هذا القول يسقط قول من يقول : لم خلق العالم في ستة أيام وما خلقه في لحظة واحدة ؟ لأنا نقول : كل شيء صنعه ولا علة لصنعه فلا يعلل شيء من أحكامه ولا شيء من أفعاله بعلة ، فسقط هذا السؤال .
الثاني : قول المعتزلة وهو أنهم يقولون : يجب أن تكون أفعاله تعالى مشتملة على المصلحة والحكمة . فعند هذا قال القاضي : لا يبعد أن يكون خلق الله تعالى السماوات والأرض في هذه المدة المخصوصة ، أدخل في الاعتبار في حق بعض المكلفين . ثم قال القاضي :
فإن قيل : فمن المعتبر ، وما وجه الاعتبار ؟ ثم أجاب وقال : أما المعتبر فهو أنه لا بد من مكلف أو غير مكلف من الحيوان ، خلقه الله تعالى قبل خلقه للسماوات والأرضين ، أو معهما ، وإلا لكان خلقهما عبثا .
فإن قيل : فهلا جاز أن يخلقهما لأجل حيوان يخلقه من بعد ؟ !
قلنا : إنه تعالى لا يخاف الفوت ، فلا يجوز أن يقدم خلق ما لا ينتفع به أحد لأجل حيوان سيحدث بعد ذلك ، وإنما يصح منا ذلك في مقدمات الأمور لأنا نخشى الفوت ونخاف العجز والقصور . قال : وإذا ثبت هذا فقد صح ما روي في الخبر أن خلق الملائكة كان سابقا على خلق السماوات والأرض .
فإن قيل : أولئك الملائكة لا بد لهم من مكان ، فقبل خلق السماوات والأرض لا مكان ، فكيف يمكن وجودهم بلا مكان ؟
قلنا : الذي يقدر على تسكين العرش والسماوات والأرض في أمكنتها كيف يعجز عن تسكين أولئك الملائكة في أحيازها بقدرته وحكمته ؟ وأما وجه الاعتبار في ذلك فهو أنه لما حصل هناك معتبر ، لم يمتنع أن يكون اعتباره بما يشاهده حالا بعد حال أقوى . والدليل عليه : أن ما يحدث على هذا الوجه ، فإنه يدل على أنه صادر من فاعل حكيم . وأما المخلوق دفعة واحدة فإنه لا يدل على ذلك .
[ ص: 11 ] والسؤال الثالث : فهل هذه الأيام كأيام الدنيا ، أو كما روي عن أنه قال : إنها ستة أيام من أيام الآخرة ، كل يوم منها ألف سنة مما تعدون ؟ ابن عباس
والجواب : قال القاضي : الظاهر في ذلك أنه تعريف لعباده مدة خلقه لهما ، ولا يجوز أن يكون ذلك تعريفا إلا والمدة هذه الأيام المعلومة .
ولقائل أن يقول : لما وقع التعريف بالأيام المذكورة في التوراة والإنجيل ، وكان المذكور هناك أيام الآخرة لا أيام الدنيا ، لم يكن ذلك قادحا في صحة التعريف .
السؤال الرابع : هذه الأيام إنما تتقدر بحسب طلوع الشمس وغروبها ، وهذا المعنى مفقود قبل خلقها ، فكيف يعقل هذا التعريف ؟
والجواب : التعريف يحصل بما أنه لو وقع حدوث السماوات والأرض في مدة ، لو حصل هناك أفلاك دائرة وشمس وقمر ، لكانت تلك المدة مساوية لستة أيام .
ولقائل أن يقول : فهذا يقتضي حصول مدة قبل خلق العالم ، يحصل فيها حدوث العالم ، وذلك يوجب قدم المدة .
وجوابه : أن تلك المدة غير موجودة بل هي مفروضة موهومة ، والدليل عليه أن تلك المدة المعينة حادثة ، وحدوثها لا يحتاج إلى مدة أخرى ، وإلا لزم إثبات أزمنة لا نهاية لها ، وذلك محال ، فكل ما يقولون في حدوث المدة فنحن نقوله في حدوث العالم .
السؤال الخامس : أن اليوم قد يراد به اليوم مع ليلته ، وقد يراد به النهار وحده . فالمراد بهذه الآية أيهما ؟ .
والجواب : الغالب في اللغة أنه يراد باليوم اليوم بليلته .