( ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون )
قوله تعالى ( ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون )
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى في الآية الأولى قسم الكفار إلى قسمين : منهم من يؤمن به ، ومنهم من لا يؤمن به .
وفي هذه الآية قسم من لا يؤمن به قسمين : منهم من يكون في غاية البغض له والعداوة له ونهاية النفرة عن قبول دينه ، ومنهم من لا يكون كذلك . فوصف القسم الأول في هذه الآية فقال : ومنهم من يستمع كلامك مع أنه يكون كالأصم من حيث إنه لا ينتفع ألبتة بذلك الكلام فإن الإنسان إذا قوي بغضه لإنسان آخر ، وعظمت نفرته عنه ، صارت نفسه متوجهة إلى طلب مقابح كلامه معرضة عن جميع جهات محاسن كلامه ، فالصمم في الأذن معنى ينافي حصول إدراك الصوت ، فكذلك حصول هذا البغض الشديد كالمنافي للوقوف على محاسن ذلك الكلام ، والعمى في العين معنى ينافي حصول إدراك الصورة ، فكذلك البغض ينافي وقوف الإنسان على محاسن من يعاديه والوقوف على ما آتاه الله تعالى من الفضائل ، فبين تعالى أن في أولئك الكفار من بلغت حالته في البغض والعداوة إلى هذا الحد ، ثم كما أنه لا يمكن جعل الأصم سميعا ولا جعل الأعمى بصيرا ، فكذلك لا يمكن جعل العدو البالغ في العداوة إلى هذا الحد صديقا تابعا للرسول - صلى الله عليه وسلم - والمقصود من هذا الكلام تسلية الرسول - عليه الصلاة والسلام - بأن هذه الطائفة قد بلغوا في مرض العقل إلى حيث لا يقبلون العلاج . والطبيب إذا رأى مريضا لا يقبل العلاج أعرض عنه ، ولم يستوحش من عدم قبوله للعلاج ، فكذلك وجب عليك أن لا تستوحش من حال هؤلاء الكفار .
[ ص: 82 ] المسألة الثانية : احتج بهذه الآية ، على أن السمع أفضل من البصر فقال : إن الله تعالى قرن بذهاب السمع ذهاب العقل ، ولم يقرن بذهاب النظر إذهاب البصر ، فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر . ابن قتيبة
وزيف هذا الدليل فقال : إن الذي نفاه الله مع السمع بمنزلة الذي نفاه الله مع البصر لأنه تعالى أراد إبصار القلوب ، ولم يرد إبصار العيون ، والذي يبصره القلب هو الذي يعقله . ابن الأنباري
واحتج على هذا المطلوب بحجة أخرى من القرآن ، فقال : كلما ذكر الله السمع والبصر ، فإنه في الأغلب يقدم السمع على البصر ، وذلك يدل على أن السمع أفضل من البصر . ابن قتيبة
ومن الناس من ذكر في هذا الباب دلائل أخرى :
فأحدها : أن العمى قد وقع في حق الأنبياء - عليهم السلام - أما الصمم فغير جائز عليهم ; لأنه يخل بأداء الرسالة ، من حيث إنه إذا لم يسمع كلام السائلين تعذر عليه الجواب ، فيعجز عن تبليغ شرائع الله تعالى .
الحجة الثانية : أن القوة السامعة تدرك المسموع من جميع الجوانب ، والقوة الباصرة لا تدرك المرئي إلا من جهة واحدة وهي المقابل .
الحجة الثالثة : أن الإنسان إنما يستفيد العلم بالتعلم من الأستاذ ، وذلك لا يمكن إلا بقوة السمع ، فاستكمال النفس بالكمالات العلمية لا يحصل إلا بقوة السمع ، ولا يتوقف على قوة البصر ، فكان السمع أفضل من البصر .
الحجة الرابعة : أنه تعالى قال : ( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) [ ق : 37 ] والمراد من القلب ههنا العقل ، فجعل السمع قرينا للعقل ، ويتأكد هذا بقوله تعالى : ( وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ) [ الملك : 10 ] فجعلوا السمع سببا للخلاص من عذاب السعير .
الحجة الخامسة : أن المعنى الذي يمتاز به الإنسان من سائر الحيوانات هو النطق والكلام وإنما ينتفع بذلك بالقوة السامعة ، فمتعلق السمع النطق الذي به حصل شرف الإنسان ، ومتعلق البصر إدراك الألوان والأشكال ، وذلك أمر مشترك فيه بين الناس وبين سائر الحيوانات ، فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر .
الحجة السادسة : أن الأنبياء - عليهم السلام - يراهم الناس ويسمعون كلامهم ، فنبوتهم ما حصلت بسبب ما معهم من الصفات المرئية ، وإنما حصلت بسبب ما معهم من الأصوات المسموعة وهو الكلام وتبليغ الشرائع وبيان الأحكام ، فوجب أن يكون المسموع أفضل من المرئي ، فلزم أن يكون السمع أفضل من البصر . فهذا جملة ما تمسك به القائلون بأن السمع أفضل من البصر .
ومن الناس من قال : البصر أفضل من السمع ، ويدل عليه وجوه :
الحجة الأولى : أنهم قالوا في المثل المشهور ليس وراء العيان بيان ، وذلك يدل على أن أكمل وجوه الإدراكات هو الإبصار .
الحجة الثانية : أن آلة القوة الباصرة هو النور وآلة القوة السامعة هي الهواء ، والنور أشرف من الهواء ، فالقوة الباصرة أشرف من القوة السامعة .
[ ص: 83 ] الحجة الثالثة : أن التي هي محل الإبصار أكثر من عجائب خلقته في الأذن التي هي محل السماع ، فإنه تعالى جعل تمام روح واحد من الأرواح السبعة الدماغية من العصب آلة للإبصار ، وركب العين من سبع طبقات وثلاث رطوبات ، وخلق لتحريكات العين عضلات كثيرة على صورة مختلفة ، والأذن ليس كذلك ، وكثرة العناية في تخليق الشيء تدل على كونه أفضل من غيره . عجائب حكمة الله تعالى في تخليق العين
الحجة الرابعة : أن البصر يرى ما حصل فوق سبع سموات ، والسمع لا يدرك ما بعد منه على فرسخ ، فكان البصر أقوى وأفضل . وبهذا البيان يدفع قولهم إن السمع يدرك من كل الجوانب والبصر لا يدرك إلا من الجانب الواحد .
الحجة الخامسة : أن كثيرا من الأنبياء سمع كلام الله في الدنيا ، واختلفوا في أنه هل رآه أحد في الدنيا أم لا ؟ وأيضا فإن موسى - عليه السلام - سمع كلامه من غير سبق سؤال والتماس ، ولما سأل الرؤية قال : ( لن تراني ) [ الأعراف : 143 ] وذلك يدل على أن حال الرؤية أعلى من حال السماع .
الحجة السادسة : قال : كيف يكون السمع أفضل من البصر وبالبصر يحصل جمال الوجه ، وبذهابه عيبه ، وذهاب السمع لا يورث الإنسان عيبا ؟ والعرب تسمي العينين الكريمتين ولا تصف السمع بمثل هذا ; ومنه الحديث يقول الله تعالى : " ابن الأنباري " . من أذهبت كريمته فصبر واحتسب ؛ لم أرض له ثوابا دون الجنة
المسألة الثالثة : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن مخلوقة لله تعالى ، قالوا : الآية دالة على أن قلوب أولئك الكفار بالنسبة إلى الإيمان كالأصم بالنسبة إلى استماع الكلام ، وكالأعمى بالنسبة إلى إبصار الأشياء ، وكما أن هذا ممتنع فكذلك ما نحن فيه . أفعال العباد
قالوا : والذي يقوي ذلك أن حصول العداوة القوية الشديدة ، وكذلك حصول المحبة الشديدة في القلب ليس باختيار الإنسان ; لأن عند حصول هذه العداوة الشديدة يجد وجدانا ضروريا أن القلب يصير كالأصم والأعمى في استماع كلام العدو وفي مطالعة أفعاله الحسنة ، وإذا كان الأمر كذلك فقد حصل المطلوب ، وأيضا لما حكم الله تعالى عليها حكما جازما بعدم الإيمان ، فحينئذ يلزم من حصول الإيمان انقلاب علمه جهلا وخبره الصدق كذبا ، وذلك محال .
وأما المعتزلة : فقد احتجوا على صحة قولهم بقوله تعالى : ( إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ) وجه الاستدلال به ، أنه يدل على أنه تعالى ما ألجأ أحدا إلى هذه القبائح والمنكرات ، ولكنهم باختيار أنفسهم يقدمون عليها ويباشرونها .
أجاب الواحدي عنه فقال : ، لأنه يتصرف في ملك نفسه ، ومن كان كذلك لم يكن ظالما ، وإنما قال : ( إنه تعالى إنما نفى الظلم عن نفسه ولكن الناس أنفسهم يظلمون ) لأن الفعل منسوب إليهم بسبب الكسب .