[ ص: 180 ] ( حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل )
قوله تعالى : ( حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل )
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب " الكشاف " ( حتى ) هي التي يبتدأ بعدها الكلام أدخلت على الجملة من الشرط والجزاء ووقعت غاية لقوله : ( ويصنع الفلك ) أي : فكان يصنعها إلى أن جاء وقت الموعد .
المسألة الثانية : الأمر في قوله تعالى : ( حتى إذا جاء أمرنا ) يحتمل وجهين :
الأول : أنه تعالى بين أنه تعالى كما قال : ( لا يحدث شيء إلا بأمر الله إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) [النحل : 40] فكان المراد هذا .
والثاني : أن يكون المراد من الأمر ههنا هو العذاب الموعد به .
المسألة الثالثة : في التنور قولان :
أحدهما : أنه التنور الذي يخبز فيه .
والثاني : أنه غيره ، أما الأول وهو أنه التنور الذي يخبز فيه فهو قول جماعة عظيمة من المفسرين كابن عباس والحسن . وهؤلاء اختلفوا ، فمنهم من قال : إنه تنور ومجاهد لنوح عليه السلام ، وقيل : كان لآدم ، قال الحسن : كان تنورا من حجارة ، وكان لحواء حتى صار لنوح عليه السلام ، واختلفوا في موضعه فقال : إنه كان بناحية الشعبي الكوفة ، وعن علي رضي الله عنه أنه في مسجد الكوفة . قال : وقد صلى فيه سبعون نبيا ، وقيل : بالشام بموضع يقال له : عين وردان ، وهو قول مقاتل ، وقيل : فار التنور بالهند ، وقيل : إن امرأته كانت تخبز في ذلك التنور فأخبرته بخروج الماء من ذلك التنور فاشتغل في الحال بوضع تلك الأشياء في السفينة .
القول الثاني : ليس المراد من التنور تنور الخبز ، وعلى هذا التقدير ففيه أقوال :
الأول : أنه انفجر الماء من وجه الأرض كما قال : ( ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر ) [القمر : 11] والعرب تسمي وجه الأرض تنورا .
الثاني : أن التنور أشرف موضع في الأرض وأعلى مكان فيها ، وقد أخرج إليه الماء من ذلك الموضع ليكون ذلك معجزة له ، وأيضا المعنى أنه لما نبع الماء من أعالي الأرض ، ومن الأمكنة المرتفعة فشبهت لارتفاعها بالتنانير .
الثالث : ( وفار التنور ) أي طلع الصبح ، وهو منقول عن علي رضي الله عنه .
الرابع : ( وفار التنور ) يحتمل أن يكون معناه أشد الأمر كما يقال : حمي الوطيس ، ومعنى الآية إذا رأيت الأمر يشتد والماء يكثر فانج بنفسك ومن معك إلى السفينة .
فإن قيل : فما الأصح من هذه الأقوال ؟
قلنا : الأصل حمل الكلام على حقيقته ، ولفظ التنور حقيقة في الموضع الذي يخبز فيه ، فوجب حمل اللفظ عليه ، ولا امتناع في العقل في أن يقال : إن الماء نبع أولا من موضع معين ، وكان ذلك الموضع تنورا .
فإن قيل : ذكر التنور بالألف واللام ، وهذا إنما يكون معهود سابق معين معلوم عند السامع ، وليس في الأرض تنور هذا شأنه ، فوجب أن يحمل ذلك على أن المراد إذا رأيت الماء يشتد نبوعه والأمر يقوى فانج [ ص: 181 ] بنفسك وبمن معك .
قلنا : لا يبعد أن يقال : إن ذلك التنور كان لنوح عليه السلام بأن كان تنور آدم أو حواء أو كان لنوح عليه السلام وعرفه أنك إذا رأيت الماء يفور فاعلم أن الأمر قد وقع ، وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى صرف الكلام عن ظاهره . تنورا عينه الله تعالى
المسألة الرابعة : معنى ( فار ) نبع على قوة وشدة تشبيها بغليان القدر عند قوة النار ولا شبهة في أن نفس التنور لا يفور ، فالمراد فار الماء من التنور ، والذي روي أن فور التنور كان علامة لهلاك القوم لا يمتنع ؛ لأن هذه واقعة عظيمة ، وقد وعد الله تعالى المؤمنين النجاة ، فلا بد وأن يجعل لهم علامة بها يعرفون الوقت المعين ، فلا يبعد جعل هذه الحالة علامة لحدوث هذه الواقعة .