[ ص: 76 ]   ( اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين  قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين    ) 
قوله تعالى : ( اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين  قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين    ) 
واعلم أنه لما قوي الحسد وبلغ النهاية قالوا لا بد من تبعيد يوسف  عن أبيه  ، وذلك لا يحصل إلا بأحد طريقين : القتل أو التغريب إلى أرض يحصل اليأس من اجتماعه مع أبيه ، ولا وجه في الشر يبلغه الحاسد أعظم من ذلك . ثم ذكروا العلة فيه وهي قولهم : ( يخل لكم وجه أبيكم    ) والمعنى أن يوسف  شغله عنا وصرف وجهه إليه فإذا أفقده أقبل علينا بالميل والمحبة ( وتكونوا من بعده قوما صالحين    ) وفيه وجوه : 
الأول : أنهم علموا أن ذلك الذي عزموا عليه من الكبائر فقالوا : إذا فعلنا ذلك تبنا إلى الله ونصير من القوم الصالحين . 
والثاني : أنه ليس المقصود ههنا صلاح الدين بل المعنى يصلح شأنكم عند أبيكم ويصير أبوكم محبا لكم مشتغلا بشأنكم . 
الثالث : المراد أنكم بسبب هذه الوحشة صرتم مشوشين لا تتفرغون لإصلاح مهمة ، فإذا زالت هذه الوحشة تفرغتم لإصلاح مهماتكم . واختلفوا في أن هذا القائل الذي أمر بالقتل من كان ، على قولين : 
أحدهما : أن بعض إخوته قال هذا . 
والثاني : أنهم شاوروا أجنبيا فأشار عليهم بقتله ، ولم يقل ذلك أحد من إخوته . 
فأما من قال بالأول فقد اختلفوا ، فقال وهب    : إنه شمعون  ، وقال مقاتل    : روبيل    . 
فإن قيل : كيف يليق هذا بهم وهم أنبياء ؟ 
قلنا : من الناس من أجاب عنه بأنهم كانوا في هذا الوقت مراهقين وما كانوا بالغين . وهذا ضعيف ; لأنه يبعد من مثل نبي الله تعالى يعقوب  عليه السلام أن يبعث جماعة من الصبيان من غير أن يكون معهم إنسان عاقل يمنعهم من القبائح . وأيضا أنهم قالوا : ( وتكونوا من بعده قوما صالحين    ) وهذا يدل على أنهم قبل التوبة لا يكونون صالحين ، وذلك ينافي كونهم من الصبيان . ومنهم من أجاب بأن هذا من باب الصغائر ، وهذا أيضا بعيد لأن إيذاء الأب الذي هو نبي معصوم ، والكذب عليه ، والسعي في إهلاك الأخ الصغير ، كل واحد من ذلك من أمهات الكبائر ، بل الجواب الصحيح أن يقال : إنهم ما كانوا أنبياء ، وإن كانوا أنبياء إلا أن هذه الواقعة إنما أقدموا عليها قبل النبوة . 
ثم إنه تعالى حكى أن قائلا قال : ( لا تقتلوا يوسف    ) قيل إنه كان روبيل  وكان ابن خالة يوسف  وكان أحسنهم رأيا فيه ، فمنعهم عن القتل ، وقيل يهودا ، وكان أقدمهم في الرأي والفضل والسن . 
ثم قال : ( وألقوه في غيابة الجب    ) وفيه مسائل : 
المسألة الأولى : قرأ نافع    " في غيابات الجب " على الجمع في الحرفين ، هذا والذي بعده ، والباقون " غيابة " على الواحد في الحرفين . أما وجه الغيابات فهو أن للجب أقطارا ونواحي ، فيكون فيها غيابات ، ومن وحد قال : المقصود موضع واحد من الجب يغيب فيه يوسف  ، فالتوحيد أخص وأدل على المعنى   [ ص: 77 ] المطلوب . وقرأ الجحدري    " في غيبة الجب " . 
المسألة الثانية : قال أهل اللغة : الغيابة كل ما غيب شيئا وستره  ، فغيابة الجب غوره ، وما غاب منه عن عين الناظر وأظلم من أسفله . والجب البئر التي ليست بمطوية ، سميت جبا لأنها قطعت قطعا ولم يحصل فيها غير القطع من طي أو ما أشبه ذلك ، وإنما ذكرت الغيابة مع الجب دلالة على أن المشير أشار بطرحه في موضع مظلم من الجب لا يلحقه نظر الناظرين ، فأفاد ذكر الغيابة هذا المعنى ؛ إذ كان يحتمل أن يلقى في موضع من الجب لا يحول بينه وبين الناظرين . 
المسألة الثالثة : الألف واللام في الجب تقتضي المعهود السابق ، اختلفوا في ذلك الجب فقال قتادة    : هو بئر ببيت المقدس  ، وقال وهب    : هو بأرض الأردن  ، وقال مقاتل    : هو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب  ، وإنما عينوا ذلك الجب للعلة التي ذكروها وهي قولهم : ( يلتقطه بعض السيارة    ) وذلك لأن تلك البئر كانت معروفة وكانوا يردون عليها كثيرا ، وكان يعلم أنه إذا طرح فيها يكون إلى السلامة أقرب ، لأن السيارة إذا جازوا وردوها ، وإذا وردوها شاهدوا ذلك الإنسان فيها ، وإذا شاهدوه أخرجوه وذهبوا به فكان إلقاؤه فيها أبعد عن الهلاك . 
المسألة الرابعة : الالتقاط تناول الشيء من الطريق ، ومنه : اللقطة واللقيط ، وقرأ الحسن    " تلتقطه " بالتاء على المعنى ، لأن بعض السيارة أيضا سيارة ، والسيارة الجماعة الذين يسيرون في الطريق للسفر . قال  ابن عباس    : يريد المارة . 
وقوله : ( إن كنتم فاعلين    ) فيه إشارة إلى أن الأولى أن لا تفعلوا شيئا من ذلك ، وأما إن كان ولا بد فاقتصروا على هذا القدر ، ونظيره قوله تعالى : ( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به    ) يعني الأولى أن لا تفعلوا ذلك . 
				
						
						
