المسألة الثانية : اعلم أن تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به ويذم ، واشتقاقه من الحياة ، يقال : حيي الرجل ، كما يقال : نسي وخشي ، وشظي الفرس : إذا اعتلت هذه الأعضاء . جعل الحيي لما يعتريه الانكسار والتغير منكسر القوة منغص الحياة ، كما قالوا : فلان هلك حياء من كذا ، ومات حياء ، ورأيت الهلاك في وجهه من شدة الحياء ، وذاب حياء ، وإذا ثبت هذا استحال الحياء على الله تعالى لأنه تغير يلحق البدن ، وذلك لا يعقل إلا في حق الجسم ، ولكنه وارد في الأحاديث . روى الحياء سلمان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " حتى يضع فيهما خيرا إن الله تعالى حيي كريم يستحيي إذا رفع العبد إليه يديه أن يردهما صفرا " ، وإذا كان كذلك وجب تأويله ، وفيه وجهان :
الأول : وهو القانون في أمثال هذه الأشياء ؛ أن كل صفة ثبتت للعبد مما يختص بالأجسام فإذا وصف الله تعالى بذلك فذلك محمول على نهايات الأعراض لا على بدايات الأعراض ، مثاله أن الحياء حالة تحصل للإنسان لكن لها مبدأ ومنتهى ، أما المبدأ فهو التغير الجسماني الذي يلحق الإنسان من خوف أن ينسب إلى القبيح ، وأما النهاية فهو أن يترك الإنسان ذلك الفعل ، فإذا ورد الحياء في حق الله تعالى فليس المراد منه ذلك الخوف الذي هو مبدأ الحياء ومقدمته ، بل ترك الفعل الذي هو منتهاه وغايته ، وكذلك الغضب له علامة ومقدمة وهي غليان دم القلب وشهوة الانتقام ، وله غاية وهو إنزال العقاب بالمغضوب عليه ، فإذا وصفنا الله تعالى بالغضب فليس المراد ذلك المبدأ - أعني شهوة الانتقام وغليان دم القلب - بل المراد تلك النهاية وهو إنزال العقاب ، فهذا هو القانون الكلي في هذا الباب .
الثاني : يجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة فقالوا : أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلا بالذباب والعنكبوت ، فجاء هذا الكلام على سبيل إطباق الجواب على السؤال ، وهذا فن بديع من الكلام ، ثم [ ص: 123 ] قال القاضي : ما لا يجوز على الله من هذا الجنس إثباتا فيجب أن لا يطلق على طريق النفي أيضا عليه ، وإنما يقال : إنه لا يوصف به ، فأما أن يقال : لا يستحي ، ويطلق عليه ذلك فمحال ؛ لأنه يوهم نفي ما يجوز عليه ، وما ذكره الله تعالى من كتابه في قوله : ( لا تأخذه سنة ولا نوم ) [ البقرة : 255 ] ، وقوله : ( لم يلد ولم يولد ) [ الإخلاص : 3 ] فهو بصورة النفي وليس بنفي على الحقيقة ، وكذلك قوله : ( ما اتخذ الله من ولد ) [ المؤمنون : 91 ] ، وكذلك قوله : ( وهو يطعم ولا يطعم ) [ الأنعام : 14 ] ، وليس كل ما ورد في القرآن إطلاقه جائزا أن يطلق في المخاطبة ، فلا يجوز أن يطلق ذلك إلا مع بيان أن ذلك محال .
ولقائل أن يقول : لا شك في أن هذه الصفات منفية عن الله سبحانه ، فكان الإخبار عن انتفائها صدقا فوجب أن يجوز . بقي أن يقال : إن الإخبار عن انتفائها يدل على صحتها عليه ، فنقول : هذه الدلالة ممنوعة وذلك لأن تخصيص هذا النفي بالذكر لا يدل على ثبوت غيره ، بل لو قرن باللفظ ما يدل على انتفاء الصحة أيضا كان ذلك أحسن من حيث إنه يكون مبالغة في البيان ، وليس إذا كان غيره أحسن أن يكون ذلك قبيحا .