المسألة الثانية : من الناس من احتج بهذه الآية على أن الأصل في المضار الحرمة ، فقال : لو كان الضرر مشروعا لكان إما أن يكون مشروعا على وجه يكون جزاء على جرم صادر منهم أو لا على هذا الوجه ، والقسمان باطلان ، فوجب أن لا يكون مشروعا أصلا .
أما بيان فساد القسم الأول ، فقوله تعالى : ( ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة )
[ ص: 48 ] والاستدلال به من وجهين :
الأول : أن كلمة " لو " وضعت لانتفاء الشيء لانتفاء غيره . فقوله : ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابة . يقتضي أنه تعالى ما أخذهم بظلمهم ، وأنه ترك على ظهرها من دابة .
والثاني : أنه لما دلت الآية على أن لازمة أخذ الله الناس بظلمهم هو أن لا يترك على ظهرها دابة ، ثم إنا نشاهد أنه تعالى ترك على ظهرها دواب كثيرين ، فوجب القطع بأنه تعالى لا يؤاخذ الناس بظلمهم ، فثبت بهذا أنه لا يجوز أن تكون المضار مشروعة على وجه تقع أجزية عن الجرائم
وأما القسم الثاني : وهو أن يكون مشروعا ابتداء لا على وجه يقع أجزية عن جرم سابق ، فهذا باطل بالإجماع ، فثبت أن مقتضى هذه الآية تحريم المضار مطلقا ، ويتأكد هذا أيضا بآيات أخرى كقوله تعالى : ( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ) [ الأعراف : 56 ] وكقوله : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) [ الحج : 78 ] وكقوله ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) [ البقرة : 185 ] وكقوله عليه السلام : " لا ضرر ولا ضرار في الإسلام " وكقوله : " " فثبت بمجموع هذه الآيات والأخبار أن الأصل في المضار الحرمة ، فنقول : إذا وقعت حادثة مشتملة على الضرر من كل الوجوه ، فإن وجدنا نصا خاصا يدل على كونه مشروعا قضينا به تقديما للخاص على العام ، وإلا قضينا عليه بالحرمة بناء على هذا الأصل الذي قررناه . ومنهم من قال : هذه القاعدة تدل على أن كل ما يريده الإنسان وجب أن يكون مشروعا في حقه ; لأن المنع منه ضرر ، والضرر غير مشروع بمقتضى هذا الأصل ، وكل ما يكرهه الإنسان وجب أن يحرم ; لأن وجوده ضرر ، والضرر غير مشروع ، فثبت أن هذا الأصل يتناول جميع الوقائع الممكنة إلى يوم القيامة . ثم نقول : القياس الذي يتمسك به في إثبات الأحكام إما أن يكون على وفق هذه القاعدة أو على خلافها ، والأول باطل ; لأن هذا الأصل يغني عنه ، والثاني باطل ; لأن النص راجح على القياس ، والله أعلم . ملعون من ضر مسلما