أما الأوضاع اللغوية فبيانه من وجوه :
أحدها : أنه لا يصح من طريق اللغة أن يقال لمن منع غيره من سلوك الطريق كرها وجبرا أنه أضله ، بل يقال : منعه منه وصرفه عنه ، وإنما يقولون : إنه أضله عن الطريق ، إذا لبس عليه وأورد من الشبهة ما يلبس عليه الطريق فلا يهتدي له .
وثانيها : أنه تعالى وصف إبليس وفرعون بكونهما مضللين ، مع أن فرعون وإبليس ما كانا خالقين للضلال في قلوب المستجيبين لهما بالاتفاق ، وأما عند
الجبرية فلأن العبد لا يقدر على الإيجاد ، وأما عند
القدرية فلأن العبد لا يقدر على هذا النوع من الإيجاد ، فلما حصل اسم المضل حقيقة مع نفي الخالقية بالاتفاق ، علمنا أن اسم المضل غير موضوع في اللغة لخالق الضلال .
[ ص: 128 ] وثالثها : أن الإضلال في مقابلة الهداية فكما صح أن يقال : هديته فما اهتدى ، وجب صحة أن يقال : أضللته فما ضل ، وإذا كان كذلك استحال
nindex.php?page=treesubj&link=28785حمل الإضلال على خلق الضلال ، وأما بحسب الدلائل العقلية فمن وجوه :
أحدها : أنه تعالى لو خلق الضلال في العبد ثم كلفه بالإيمان لكان قد كلفه بالجمع بين الضدين وهو سفه وظلم ، وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=46وما ربك بظلام للعبيد ) [ فصلت : 46 ] ، وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) [ البقرة : 286 ] ، وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=78وما جعل عليكم في الدين من حرج ) [ الحج : 78 ] .
وثانيها : لو كان تعالى خالقا للجهل وملبسا على المكلفين لما كان مبينا لما كلف العبد به ، وقد أجمعت الأمة على كونه تعالى مبينا .
وثالثها : أنه تعالى لو خلق فيهم الضلال وصدهم عن الإيمان لم يكن لإنزال الكتب عليهم وبعثة الرسل إليهم فائدة ؛ لأن الشيء الذي لا يكون ممكن الحصول كان السعي في تحصيله عبثا وسفها .
ورابعها : أنه على مضادة كبيرة من الآيات نحو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=84&ayano=20فما لهم لا يؤمنون ) [ الانشقاق : 20 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=49فما لهم عن التذكرة معرضين ) [ المدثر : 49 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=94وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا ) [ الإسراء : 94 ] ، فبين أنه لا مانع لهم من الإيمان البتة ، وإنما امتنعوا لأجل إنكارهم بعثة الرسل من البشر ، وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=55وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم ) [ الكهف : 55 ] ، وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=28كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ) [ البقرة : 28 ] ، وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=32فأنى تصرفون ) [ يونس : 32 ] وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=95فأنى تؤفكون ) [ الأنعام : 95 ] فلو كان الله تعالى قد أضلهم عن الدين وصرفهم عن الإيمان لكانت هذه الآيات باطلة .
وخامسها : أنه تعالى ذم إبليس وحزبه ومن سلك سبيله في إضلال الناس عن الدين وصرفهم عن الحق وأمر عباده ورسوله بالاستعاذة منهم بقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=114&ayano=1قل أعوذ برب الناس ) [ الناس : 1 ] إلى قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=114&ayano=4من شر الوسواس ) [ الناس : 4 ] و (
nindex.php?page=tafseer&surano=113&ayano=1قل أعوذ برب الفلق ) [ الفلق : 1 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=97وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=98فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ) ، فلو كان الله تعالى يضل عباده عن الدين كما تضل الشياطين لاستحق من المذمة مثل ما استحقوه ولوجب الاستعاذة منه كما وجب منهم ، ولوجب أن يتخذوه عدوا من حيث أضل أكثر خلقه كما وجب اتخاذ إبليس عدوا لأجل ذلك ، قالوا : بل خصيصية الله تعالى في ذلك أكثر ؛ إذ تضليل إبليس سواء وجوده وعدمه فيما يرجع إلى حصول الضلال ، بخلاف تضليل الله فإنه هو المؤثر في الضلال ، فيلزم من هذا تنزيه إبليس عن جميع القبائح وإحالتها كلها على الله تعالى ، فيكون الذم منقطعا بالكلية عن إبليس وعائدا إلى الله ، سبحانه وتعالى عن قول الظالمين .
وسادسها : أنه تعالى أضاف الإضلال عن الدين إلى غيره وذمهم لأجل ذلك ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=79وأضل فرعون قومه وما هدى ) [ طه : 79 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=85وأضلهم السامري ) [ طه : 85 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=116وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ) [ الأنعام : 116 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=26إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ) [ ص : 26 ] ، وقوله تعالى حاكيا عن إبليس : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=119ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم ) [ النساء : 119 ] ، فهؤلاء إما أن يكونوا قد أضلوا غيرهم عن الدين في الحقيقة أو يكون الله هو الذي أضلهم أو حصل الإضلال بالله وبهم على سبيل الشركة ، فإن كان الله تعالى قد أضلهم عن الدين دون هؤلاء فهو سبحانه وتعالى قد تقول عليهم إذ
[ ص: 129 ] قد رماهم بدأبه وعابهم بما فيه وذمهم بما لم يفعلوه ، والله متعال عن ذلك ، وإن كان الله تعالى مشاركا لهم في ذلك فكيف يجوز أن يذمهم على فعل هو شريك فيه ومساو لهم فيه ، وإذا فسد الوجهان صح أن لا يضاف خلق الضلال إلى الله تعالى .
وسابعها : أنه تعالى ذكر أكثر الآيات التي فيها ذكر الضلال منسوبا إلى العصاة على ما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26وما يضل به إلا الفاسقين ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=27ويضل الله الظالمين ) [ إبراهيم : 27 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=67إن الله لا يهدي القوم الكافرين ) [ المائدة : 67 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=34كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب ) [ غافر : 34 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=28إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب ) [ غافر : 28 ] ، فلو كان المراد بالضلال المضاف إليه تعالى هو ما هم فيه ، كان كذلك إثباتا للثابت وهذا محال .
وثامنها : أنه تعالى نفى إلهية الأشياء التي كانوا يعبدونها من حيث إنهم لا يهدون إلى الحق ، قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=35أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى ) [ يونس : 35 ] ، فنفى ربوبية تلك الأشياء من حيث إنها لا تهدي ، وأوجب ربوبية نفسه من حيث إنه سبحانه وتعالى يهدي ، فلو كان سبحانه وتعالى يضل عن الحق لكان قد ساواهم في الضلال وفيما لأجله نهى عن اتباعهم ، بل كان قد أربى عليهم ؛ لأن الأوثان كما أنها لا تهدي فهي لا تضل ، وهو سبحانه وتعالى مع أنه إله يهدي فهو يضل .
وتاسعها : أنه تعالى يذكر هذا الضلال جزاء لهم على سوء صنيعهم وعقوبة عليه ، فلو كان المراد ما هم عليه من الضلال كان ذلك عقوبة وتهديدا بأمر هم له ملابسون ، وعليه مقبلون ، وبه ملتذون ومغتبطون ، ولو جاز ذلك لجازت العقوبة بالزنا على الزنا وبشرب الخمر على شرب الخمر ، وهذا لا يجوز .
وعاشرها : أن قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26وما يضل به إلا الفاسقين nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=27الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ) صريح في أنه تعالى إنما يفعل به هذا الإضلال بعد أن صار هو من الفاسقين الناقضين لعهد الله باختيار نفسه ، فدل ذلك على أن هذا الإضلال الذي يحصل بعد صيرورته فاسقا وناقضا للعهد مغاير لفسقه ونقضه .
وحادي عاشرها : أنه تعالى فسر الإضلال المنسوب إليه في كتابه ، إما بكونه ابتلاء وامتحانا ، أو بكونه عقوبة ونكالا ، فقال في الابتلاء : (
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=31وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ) [ المدثر : 31 ] أي امتحانا ، إلى أن قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=31كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ) [ المدثر : 31 ] ، فبين أن إضلاله للعبد يكون على هذا الوجه من إنزاله آية متشابهة أو فعلا متشابها لا يعرف حقيقة الغرض فيه ؛ والضال به هو الذي لا يقف على المقصود ولا يتفكر في وجه الحكمة فيه بل يتمسك بالشبهات في تقرير المجمل الباطل كما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ) [ آل عمران : 7 ] ، وأما العقوبة والنكال فكقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=71إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون ) [ غافر : 71 ] ، إلى أن قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=74كذلك يضل الله الكافرين ) [ غافر : 74 ] فبين أن إضلاله لا يعدو أحد هذين الوجهين ، وإذا كان الإضلال مفسرا بأحد هذين الوجهين وجب أن لا يكون مفسرا بغيرهما دفعا للاشتراك ، فثبت أنه لا يجوز حمل الإضلال على خلق الكفر والضلال ، وإذا ثبت ذلك فنقول : بينا أن الإضلال في أصل اللغة الدعاء إلى الباطل والترغيب فيه والسعي في إخفاء مقابحه ، وذلك لا يجوز على الله تعالى فوجب المصير إلى التأويل ، والتأويل الذي ذهبت
الجبرية إليه قد أبطلناه ، فوجب المصير إلى وجوه أخر من التأويلات :
أحدها : أن الرجل إذا ضل باختياره عند حصول شيء من غير أن يكون ذلك الشيء أثر في
[ ص: 130 ] إضلاله فيقال لذلك الشيء : إنه أضله ، قال تعالى في حق الأصنام (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=36رب إنهن أضللن كثيرا من الناس ) [ إبراهيم : 36 ] ، أي ضلوا بهن ، وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=23ولا يغوث ويعوق ونسرا nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=24وقد أضلوا كثيرا ) [ نوح : 23 ، 24 ] ، أي ضل كثير من الناس بهم ، وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=64وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ) [ المائدة : 64 ] ، وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=6فلم يزدهم دعائي إلا فرارا ) [ نوح : 6 ] ، أي لم يزدادوا بدعائي لهم إلا فرارا ، وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=110فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري ) [ المؤمنون : 110 ] ، وهم لم ينسوهم في الحقيقة بل كانوا يذكرونهم الله ويدعونهم إليه ، ولكن لما كان اشتغالهم بالسخرية منهم سببا لنسيانهم أضيف الإنساء إليهم ، وقال في براءة : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=124وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا ) [ التوبة : 124 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=124فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون ) [ التوبة : 124 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=125وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم ) [ التوبة : 125 ] . فأخبر سبحانه أن نزول السورة المشتملة على الشرائع يعرف أحوالهم ، فمنهم من يصلح عليها فيزداد بها إيمانا ، ومنهم من يفسد عليها فيزداد بها كفرا ، فإذن أضيفت الزيادة في الإيمان والزيادة في الكفر إلى السورة ، إذ كانوا إنما صلحوا عند نزولها وفسدوا كذلك أيضا ، فكذا أضيف الهدى والإضلال إلى الله تعالى إذا كان إحداثهما عند ضربه تعالى الأمثال لهم ، وقال في سورة المدثر : (
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=31وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ) [ المدثر : 31 ] ، فأخبر تعالى أن ذكره لعدة خزنة النار امتحان منه لعباده ليتميز المخلص من المرتاب ، فآلت العاقبة إلى أن صلح عليها المؤمنون وفسد الكافرون ، وأضاف زيادة الإيمان وضدها إلى الممتحنين ، فقال : (ليزداد) (وليقول) ثم قال بعد قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26ماذا أراد الله بهذا مثلا ) : (
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=31كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ) [ المدثر : 31 ] ، فأضاف إلى نفسه إضلالهم وهداهم بعد أن أضاف إليهم الأمرين معا ، فبين تعالى أن الإضلال مفسر بهذا الامتحان ، ويقال في العرف أيضا : أمرضني الحب ؛ أي مرضت به ، ويقال : قد أفسدت فلانة فلانا ، وهي لم تعلم به ، وقال الشاعر :
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
أي يغري الملوم باللوم .
والإضلال على هذا المعنى يجوز أن يضاف إلى الله تعالى على معنى أن الكافرين ضلوا بسبب الآيات المشتملة على الامتحانات ، ففي هذه الآية الكفار لما قالوا : ما الحاجة إلى الأمثال وما الفائدة فيها ، واشتد عليهم هذا الامتحان ، حسنت هذه الإضافة .
وثانيها : أن الإضلال هو التسمية بالضلال ، فيقال : أضله ؛ أي سماه ضالا وحكم عليه به ، وأكفر فلان فلانا : إذا سماه كافرا ، وأنشدوا بيت الكميت :
وطائفة قد أكفروني بحبكم وطائفة قالوا مسيء ومذنب
وقال
طرفة :
وما زال شربي الراح حتى أضلني صديقي وحتى ساءني بعض ذلكا
أراد سماني ضالا .
وهذا الوجه مما ذهب إليه
قطرب وكثير من
المعتزلة ، ومن أهل اللغة من أنكره ، وقال : إنما يقال : ضللته تضليلا : إذا سميته ضالا ، وكذلك فسقته وفجرته : إذا سميته فاجرا فاسقا ، وأجيب عنه بأنه متى صيره في نفسه ضالا لزمه أن يصير محكوما عليه بالضلال ، فهذا الحكم من لوازم ذلك التصيير ، وإطلاق اسم الملزوم على اللازم مجاز مشهور وأنه مستعمل أيضا لأن الرجل إذا قال لآخر : فلان ضال ، جاز أن يقال له : لم جعلته ضالا ؟ ويكون المعنى : لم سميته بذلك ولم حكمت به عليه ؟ فعلى هذا الوجه حملوا الإضلال على
[ ص: 131 ] الحكم والتسمية .
وثالثها : أن يكون الإضلال هو التخلية وترك المنع بالقهر والجبر ، فيقال : أضله : إذا خلاه وضلاله ، قالوا : ومن مجازه قولهم : أفسد فلان ابنه وأهلكه ودمر عليه : إذا لم يتعهده بالتأديب ، ومثله قول
العرجي :
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر
ويقال لمن ترك سيفه في الأرض الندية حتى فسد وصدئ : أفسدت سيفك وأصدأته .
ورابعها : الضلال والإضلال هو العذاب والتعذيب ، بدليل قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=47إن المجرمين في ضلال وسعر nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=48يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر ) [ القمر : 47 ، 48 ] ، فوصفهم الله تعالى بأنهم يوم القيامة في ضلال ، وذلك لا يكون إلا عذابهم ، وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=71إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=72في الحميم ثم في النار يسجرون nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=73ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=74من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعو من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين ) [ غافر : 71 : 74 ] ، فسر ذلك الضلال بالعذاب .
وخامسها : أن يحمل الإضلال على الإهلاك والإبطال كقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=1الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم ) [ محمد : 1 ] ، قيل : أبطلها وأهلكها ، ومن مجازه قولهم : ضل الماء في اللبن : إذا صار مستهلكا فيه ، ويقال : أضللته أنا : إذا فعلت ذلك به فأهلكته وصيرته كالمعدوم ، ومنه يقال : أضل القوم ميتهم : إذا واروه في قبره فأخفوه حتى صار لا يرى ، قال
النابغة :
وآب مضلوه بعين جلية وغودر بالجولان حزم ونائل
وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=10وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد ) [ السجدة : 10 ] ، أي أئذا اندفنا فيها فخفيت أشخاصنا ، فيحتمل على هذا المعنى : يضل الله إنسانا ؛ أي يهلكه ويعدمه فتجوز إضافة الإضلال إليه تعالى على هذا الوجه ، فهذه الوجوه الخمسة إذا حملنا الإضلال على الإضلال عن الدين .
وسادسها : أن يحمل الإضلال على الإضلال عن الجنة ، قالت
المعتزلة : وهذا في الحقيقة ليس تأويلا بل حملا للفظ على ظاهره ، فإن الآية تدل على أنه تعالى يضلهم وليس فيها دلالة على أنه عن ماذا يضلهم ، فنحن نحملها على أنه تعالى يضلهم عن طريق الجنة ، ثم حملوا كل ما في القرآن من هذا الجنس على هذا المحمل ، وهو اختيار
الجبائي ، قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=4كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير ) [ الحج : 4 ] أي يضله عن الجنة وثوابها . هذا كله إذا حملنا الهمزة في الإضلال على التعدية .
وسابعها : أن نحمل الهمزة لا على التعدية بل على الوجدان على ما تقدم في أول هذه المسألة بيانه ، فيقال : أضل فلان بعيره ؛ أي ضل عنه ، فمعنى إضلال الله تعالى لهم أنه تعالى وجدهم ضالين .
وثامنها : أن يكون قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ) من تمام قول الكفار فإنهم قالوا : ماذا أراد الله بهذا المثل الذي لا يظهر وجه الفائدة فيه ، ثم قالوا : يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ، وذكروه على سبيل التهكم ، فهذا من قول الكفار ، ثم قال تعالى جوابا لهم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26وما يضل به إلا الفاسقين ) أي ما أضل به إلا الفاسق . هذا مجموع كلام
المعتزلة .
أَمَّا الْأَوْضَاعُ اللُّغَوِيَّةُ فَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ مَنَعَ غَيْرَهُ مِنْ سُلُوكِ الطَّرِيقِ كَرْهًا وَجَبْرًا أَنَّهُ أَضَلَّهُ ، بَلْ يُقَالُ : مَنَعَهُ مِنْهُ وَصَرَفَهُ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ : إِنَّهُ أَضَلَّهُ عَنِ الطَّرِيقِ ، إِذَا لَبَّسَ عَلَيْهِ وَأَوْرَدَ مِنَ الشُّبْهَةِ مَا يُلَبِّسُ عَلَيْهِ الطَّرِيقَ فَلَا يَهْتَدِي لَهُ .
وَثَانِيهَا : أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ إِبْلِيسَ وَفِرْعَوْنَ بِكَوْنِهِمَا مُضَلِّلَيْنِ ، مَعَ أَنَّ فِرْعَوْنَ وَإِبْلِيسَ مَا كَانَا خَالِقَيْنِ لِلضَّلَالِ فِي قُلُوبِ الْمُسْتَجِيبِينَ لَهُمَا بِالِاتِّفَاقِ ، وَأَمَّا عِنْدُ
الْجَبْرِيَّةِ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِيجَادِ ، وَأَمَّا عِنْدَ
الْقَدَرِيَّةِ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْإِيجَادِ ، فَلَمَّا حَصَلَ اسْمُ الْمُضِلِّ حَقِيقَةً مَعَ نَفْيِ الْخَالِقِيَّةِ بِالِاتِّفَاقِ ، عَلِمْنَا أَنَّ اسْمَ الْمُضِلِّ غَيْرُ مَوْضُوعٍ فِي اللُّغَةِ لِخَالِقِ الضَّلَالِ .
[ ص: 128 ] وَثَالِثُهَا : أَنَّ الْإِضْلَالَ فِي مُقَابَلَةِ الْهِدَايَةِ فَكَمَا صَحَّ أَنْ يُقَالَ : هَدَيْتُهُ فَمَا اهْتَدَى ، وَجَبَ صِحَّةُ أَنْ يُقَالَ : أَضْلَلْتُهُ فَمَا ضَلَّ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اسْتَحَالَ
nindex.php?page=treesubj&link=28785حَمْلُ الْإِضْلَالِ عَلَى خَلْقِ الضَّلَالِ ، وَأَمَّا بِحَسَبِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ فَمِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ خَلَقَ الضَّلَالَ فِي الْعَبْدِ ثُمَّ كَلَّفَهُ بِالْإِيمَانِ لَكَانَ قَدْ كَلَّفَهُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَهُوَ سَفَهٌ وَظُلْمٌ ، وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=46وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) [ فُصِّلَتْ : 46 ] ، وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ) [ الْبَقَرَةِ : 286 ] ، وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=78وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) [ الْحَجِّ : 78 ] .
وَثَانِيهَا : لَوْ كَانَ تَعَالَى خَالِقًا لِلْجَهْلِ وَمُلَبِّسًا عَلَى الْمُكَلَّفِينَ لَمَا كَانَ مُبَيِّنًا لِمَا كُلِّفَ الْعَبْدُ بِهِ ، وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى مُبَيِّنًا .
وَثَالِثُهَا : أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ خَلَقَ فِيهِمُ الضَّلَالَ وَصَدَّهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ لَمْ يَكُنْ لِإِنْزَالِ الْكُتُبِ عَلَيْهِمْ وَبِعْثَةِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ فَائِدَةٌ ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لَا يَكُونُ مُمْكِنَ الْحُصُولِ كَانَ السَّعْيُ فِي تَحْصِيلِهِ عَبَثًا وَسَفَهًا .
وَرَابِعُهَا : أَنَّهُ عَلَى مُضَادَّةٍ كَبِيرَةٍ مِنَ الْآيَاتِ نَحْوَ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=84&ayano=20فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ) [ الِانْشِقَاقِ : 20 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=49فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ) [ الْمُدَّثِّرِ : 49 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=94وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا ) [ الْإِسْرَاءِ : 94 ] ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا مَانِعَ لَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ الْبَتَّةَ ، وَإِنَّمَا امْتَنَعُوا لِأَجْلِ إِنْكَارِهِمْ بِعْثَةَ الرُّسُلِ مِنَ الْبَشَرِ ، وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=55وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ ) [ الْكَهْفِ : 55 ] ، وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=28كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ) [ الْبَقَرَةِ : 28 ] ، وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=32فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) [ يُونُسَ : 32 ] وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=95فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) [ الْأَنْعَامِ : 95 ] فَلَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَضَلَّهُمْ عَنِ الدِّينِ وَصَرَفَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ لَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بَاطِلَةً .
وَخَامِسُهَا : أَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ إِبْلِيسَ وَحِزْبَهُ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُ فِي إِضْلَالِ النَّاسِ عَنِ الدِّينِ وَصَرْفِهِمْ عَنِ الْحَقِّ وَأَمَرَ عِبَادَهُ وَرَسُولَهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=114&ayano=1قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ) [ النَّاسِ : 1 ] إِلَى قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=114&ayano=4مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ ) [ النَّاسِ : 4 ] وَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=113&ayano=1قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ) [ الْفَلَقِ : 1 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=97وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=98فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) ، فَلَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى يُضِلُّ عِبَادَهُ عَنِ الدِّينِ كَمَا تُضِلُّ الشَّيَاطِينُ لَاسْتَحَقَّ مِنَ الْمَذَمَّةِ مِثْلَ مَا اسْتَحَقُّوهُ وَلَوَجَبَ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْهُ كَمَا وَجَبَ مِنْهُمْ ، وَلَوَجَبَ أَنْ يَتَّخِذُوهُ عَدُوًّا مِنْ حَيْثُ أَضَلَّ أَكْثَرَ خَلْقِهِ كَمَا وَجَبَ اتِّخَاذُ إِبْلِيسَ عَدُوًّا لِأَجْلِ ذَلِكَ ، قَالُوا : بَلْ خِصِّيصِيَّةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ ؛ إِذْ تَضْلِيلُ إِبْلِيسَ سَوَاءٌ وَجُودُهُ وَعَدَمُهُ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى حُصُولِ الضَّلَالِ ، بِخِلَافِ تَضْلِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الضَّلَالِ ، فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا تَنْزِيهُ إِبْلِيسَ عَنْ جَمِيعِ الْقَبَائِحِ وَإِحَالَتُهَا كُلِّهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَيَكُونُ الذَّمُّ مُنْقَطِعًا بِالْكُلِّيَّةِ عَنْ إِبْلِيسَ وَعَائِدًا إِلَى اللَّهِ ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ قَوْلِ الظَّالِمِينَ .
وَسَادِسُهَا : أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ الْإِضْلَالَ عَنِ الدِّينِ إِلَى غَيْرِهِ وَذَمَّهُمْ لِأَجْلِ ذَلِكَ ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=79وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ) [ طَهَ : 79 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=85وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ) [ طَهَ : 85 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=116وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) [ الْأَنْعَامِ : 116 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=26إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) [ ص : 26 ] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ إِبْلِيسَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=119وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ ) [ النِّسَاءِ : 119 ] ، فَهَؤُلَاءِ إِمَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ أَضَلُّوا غَيْرَهُمْ عَنِ الدِّينِ فِي الْحَقِيقَةِ أَوْ يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَضَلَّهُمْ أَوْ حَصَلَ الْإِضْلَالُ بِاللَّهِ وَبِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الشَّرِكَةِ ، فَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَضَلَّهُمْ عَنِ الدِّينِ دُونَ هَؤُلَاءِ فَهُوَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى قَدْ تَقَوَّلَ عَلَيْهِمْ إِذْ
[ ص: 129 ] قَدْ رَمَاهُمْ بِدَأْبِهِ وَعَابَهُمْ بِمَا فِيهِ وَذَمَّهُمْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُوهُ ، وَاللَّهُ مُتَعَالٍ عَنْ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مُشَارِكًا لَهُمْ فِي ذَلِكَ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَذُمَّهُمْ عَلَى فِعْلٍ هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ وَمُسَاوٍ لَهُمْ فِيهِ ، وَإِذَا فَسَدَ الْوَجْهَانِ صَحَّ أَنْ لَا يُضَافَ خَلْقُ الضَّلَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى .
وَسَابِعُهَا : أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَكْثَرَ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الضَّلَالِ مَنْسُوبًا إِلَى الْعُصَاةِ عَلَى مَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=27وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ) [ إِبْرَاهِيمَ : 27 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=67إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) [ الْمَائِدَةِ : 67 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=34كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ) [ غَافِرٍ : 34 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=28إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) [ غَافِرٍ : 28 ] ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالضَّلَالِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ تَعَالَى هُوَ مَا هُمْ فِيهِ ، كَانَ كَذَلِكَ إِثْبَاتًا لِلثَّابِتِ وَهَذَا مُحَالٌ .
وَثَامِنُهَا : أَنَّهُ تَعَالَى نَفَى إِلَهِيَّةَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ لَا يَهْدُونَ إِلَى الْحَقِّ ، قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=35أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى ) [ يُونُسَ : 35 ] ، فَنَفَى رُبُوبِيَّةَ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا لَا تَهْدِي ، وَأَوْجَبَ رُبُوبِيَّةَ نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَهْدِي ، فَلَوْ كَانَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُضِلُّ عَنِ الْحَقِّ لَكَانَ قَدْ سَاوَاهُمْ فِي الضَّلَالِ وَفِيمَا لِأَجْلِهِ نَهَى عَنِ اتِّبَاعِهِمْ ، بَلْ كَانَ قَدْ أَرْبَى عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ الْأَوْثَانَ كَمَا أَنَّهَا لَا تَهْدِي فَهِيَ لَا تُضِلُّ ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى مَعَ أَنَّهُ إِلَهٌ يَهْدِي فَهُوَ يُضِلُّ .
وَتَاسِعُهَا : أَنَّهُ تَعَالَى يَذْكُرُ هَذَا الضَّلَالَ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى سُوءِ صَنِيعِهِمْ وَعُقُوبَةً عَلَيْهِ ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالِ كَانَ ذَلِكَ عُقُوبَةً وَتَهْدِيدًا بِأَمْرٍ هُمْ لَهُ مُلَابِسُونَ ، وَعَلَيْهِ مُقْبِلُونَ ، وَبِهِ مُلْتَذُّونَ وَمُغْتَبِطُونَ ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَتِ الْعُقُوبَةُ بِالزِّنَا عَلَى الزِّنَا وَبِشُرْبِ الْخَمْرِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ .
وَعَاشِرُهَا : أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=27الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ) صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَفْعَلُ بِهِ هَذَا الْإِضْلَالَ بَعْدَ أَنْ صَارَ هُوَ مِنَ الْفَاسِقِينَ النَّاقِضِينَ لِعَهْدِ اللَّهِ بِاخْتِيَارِ نَفْسِهِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِضْلَالَ الَّذِي يَحْصُلُ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ فَاسِقًا وَنَاقِضًا لِلْعَهْدِ مُغَايِرٌ لِفِسْقِهِ وَنَقْضِهِ .
وَحَادِي عَاشِرِهَا : أَنَّهُ تَعَالَى فَسَّرَ الْإِضْلَالَ الْمَنْسُوبَ إِلَيْهِ فِي كِتَابِهِ ، إِمَّا بِكَوْنِهِ ابْتِلَاءً وَامْتِحَانًا ، أَوْ بِكَوْنِهِ عُقُوبَةً وَنَكَالًا ، فَقَالَ فِي الِابْتِلَاءِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=31وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) [ الْمُدَّثِّرِ : 31 ] أَيِ امْتِحَانًا ، إِلَى أَنْ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=31كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) [ الْمُدَّثِّرِ : 31 ] ، فَبَيَّنَ أَنَّ إِضْلَالَهُ لِلْعَبْدِ يَكُونُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ إِنْزَالِهِ آيَةً مُتَشَابِهَةً أَوْ فِعْلًا مُتَشَابِهًا لَا يُعْرَفُ حَقِيقَةُ الْغَرَضِ فِيهِ ؛ وَالضَّالُّ بِهِ هُوَ الَّذِي لَا يَقِفُ عَلَى الْمَقْصُودِ وَلَا يَتَفَكَّرُ فِي وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِيهِ بَلْ يَتَمَسَّكُ بِالشُّبُهَاتِ فِي تَقْرِيرِ الْمُجْمَلِ الْبَاطِلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ) [ آلِ عِمْرَانَ : 7 ] ، وَأَمَّا الْعُقُوبَةُ وَالنَّكَالُ فَكَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=71إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ ) [ غَافِرٍ : 71 ] ، إِلَى أَنْ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=74كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ) [ غَافِرٍ : 74 ] فَبَيَّنَ أَنَّ إِضْلَالَهُ لَا يَعْدُو أَحَدَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ، وَإِذَا كَانَ الْإِضْلَالُ مُفَسَّرًا بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مُفَسَّرًا بِغَيْرِهِمَا دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْإِضْلَالِ عَلَى خَلْقِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَنَقُولُ : بَيَّنَّا أَنَّ الْإِضْلَالَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الدُّعَاءُ إِلَى الْبَاطِلِ وَالتَّرْغِيبُ فِيهِ وَالسَّعْيُ فِي إِخْفَاءِ مَقَابِحِهِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى التَّأْوِيلِ ، وَالتَّأْوِيلُ الَّذِي ذَهَبَتِ
الْجَبْرِيَّةُ إِلَيْهِ قَدْ أَبْطَلْنَاهُ ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى وُجُوهٍ أُخَرَ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ :
أَحَدُهَا : أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا ضَلَّ بِاخْتِيَارِهِ عِنْدَ حُصُولِ شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ أَثَّرَ فِي
[ ص: 130 ] إِضْلَالِهِ فَيُقَالُ لِذَلِكَ الشَّيْءِ : إِنَّهُ أَضَلَّهُ ، قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْأَصْنَامِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=36رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ) [ إِبْرَاهِيمَ : 36 ] ، أَيْ ضَلُّوا بِهِنَّ ، وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=23وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=24وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا ) [ نُوحٍ : 23 ، 24 ] ، أَيْ ضَلَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِهِمْ ، وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=64وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ) [ الْمَائِدَةِ : 64 ] ، وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=6فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا ) [ نُوحٍ : 6 ] ، أَيْ لَمْ يَزْدَادُوا بِدُعَائِي لَهُمْ إِلَّا فِرَارًا ، وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=110فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي ) [ الْمُؤْمِنُونَ : 110 ] ، وَهُمْ لَمْ يُنْسُوهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ كَانُوا يُذَكِّرُونَهُمُ اللَّهَ وَيَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ اشْتِغَالُهُمْ بِالسُّخْرِيَةِ مِنْهُمْ سَبَبًا لِنِسْيَانِهِمْ أُضِيفَ الْإِنْسَاءُ إِلَيْهِمْ ، وَقَالَ فِي بَرَاءَةٍ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=124وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا ) [ التَّوْبَةِ : 124 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=124فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) [ التَّوْبَةِ : 124 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=125وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ ) [ التَّوْبَةِ : 125 ] . فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ نُزُولَ السُّورَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الشَّرَائِعِ يُعَرِّفُ أَحْوَالَهُمْ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَصْلُحُ عَلَيْهَا فَيَزْدَادُ بِهَا إِيمَانًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْسُدُ عَلَيْهَا فَيَزْدَادُ بِهَا كُفْرًا ، فَإِذَنْ أُضِيفَتِ الزِّيَادَةُ فِي الْإِيمَانِ وَالزِّيَادَةُ فِي الْكُفْرِ إِلَى السُّورَةِ ، إِذْ كَانُوا إِنَّمَا صَلُحُوا عِنْدَ نُزُولِهَا وَفَسَدُوا كَذَلِكَ أَيْضًا ، فَكَذَا أُضِيفَ الْهُدَى وَالْإِضْلَالُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِذَا كَانَ إِحْدَاثُهُمَا عِنْدَ ضَرْبِهِ تَعَالَى الْأَمْثَالَ لَهُمْ ، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=31وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا ) [ الْمُدَّثِّرِ : 31 ] ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ ذِكْرَهُ لِعِدَّةِ خَزَنَةِ النَّارِ امْتِحَانٌ مِنْهُ لِعِبَادِهِ لِيَتَمَيَّزَ الْمُخْلِصُ مِنَ الْمُرْتَابِ ، فَآلَتِ الْعَاقِبَةُ إِلَى أَنْ صَلُحَ عَلَيْهَا الْمُؤْمِنُونَ وَفَسَدَ الْكَافِرُونَ ، وَأَضَافَ زِيَادَةَ الْإِيمَانِ وَضِدَّهَا إِلَى الْمُمْتَحَنِينَ ، فَقَالَ : (لِيَزْدَادَ) (وَلِيَقُولَ) ثُمَّ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا ) : (
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=31كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) [ الْمُدَّثِّرِ : 31 ] ، فَأَضَافَ إِلَى نَفْسِهِ إِضْلَالَهُمْ وَهُدَاهُمْ بَعْدَ أَنْ أَضَافَ إِلَيْهِمُ الْأَمْرَيْنِ مَعًا ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْإِضْلَالَ مُفَسَّرٌ بِهَذَا الِامْتِحَانِ ، وَيُقَالُ فِي الْعُرْفِ أَيْضًا : أَمْرَضَنِي الْحُبُّ ؛ أَيْ مَرِضْتُ بِهِ ، وَيُقَالُ : قَدْ أَفْسَدَتْ فُلَانَةٌ فُلَانًا ، وَهِيَ لَمْ تَعْلَمْ بِهِ ، وَقَالَ الشَّاعِرُ :
دَعْ عَنْكَ لَوْمِي فَإِنَّ اللَّوْمَ إِغْرَاءُ
أَيْ يُغْرِي الْمَلُومَ بِاللَّوْمِ .
وَالْإِضْلَالُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْكَافِرِينَ ضَلُّوا بِسَبَبِ الْآيَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الِامْتِحَانَاتِ ، فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكُفَّارُ لَمَّا قَالُوا : مَا الْحَاجَةُ إِلَى الْأَمْثَالِ وَمَا الْفَائِدَةُ فِيهَا ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمْ هَذَا الِامْتِحَانُ ، حَسُنَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ .
وَثَانِيهَا : أَنَّ الْإِضْلَالَ هُوَ التَّسْمِيَةُ بِالضَّلَالِ ، فَيُقَالُ : أَضَلَّهُ ؛ أَيْ سَمَّاهُ ضَالًّا وَحَكَمَ عَلَيْهِ بِهِ ، وَأَكْفَرَ فُلَانٌ فُلَانًا : إِذَا سَمَّاهُ كَافِرًا ، وَأَنْشَدُوا بَيْتَ الْكُمَيْتِ :
وَطَائِفَةٌ قَدْ أَكْفَرُونِي بِحُبِّكُمْ وَطَائِفَةٌ قَالُوا مُسِيءٌ وَمُذْنِبُ
وَقَالَ
طَرَفَةُ :
وَمَا زَالَ شُرْبِي الرَّاحَ حَتَّى أَضَلَّنِي صَدِيقِي وَحَتَّى سَاءَنِي بَعْضُ ذَلِكَا
أَرَادَ سَمَّانِي ضَالًّا .
وَهَذَا الْوَجْهُ مِمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ
قُطْرُبٌ وَكَثِيرٌ مِنَ
الْمُعْتَزِلَةِ ، وَمِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مَنْ أَنْكَرَهُ ، وَقَالَ : إِنَّمَا يُقَالُ : ضَلَّلْتُهُ تَضْلِيلًا : إِذَا سَمَّيْتُهُ ضَالًّا ، وَكَذَلِكَ فَسَّقْتُهُ وَفَجَّرْتُهُ : إِذَا سَمَّيْتُهُ فَاجِرًا فَاسِقًا ، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ مَتَى صَيَّرَهُ فِي نَفْسِهِ ضَالًّا لَزِمَهُ أَنْ يَصِيرَ مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِالضَّلَالِ ، فَهَذَا الْحُكْمُ مِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ التَّصْيِيرِ ، وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ مَجَازٌ مَشْهُورٌ وَأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ أَيْضًا لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ لِآخَرَ : فُلَانٌ ضَالٌّ ، جَازَ أَنْ يُقَالَ لَهُ : لِمَ جَعَلْتَهُ ضَالًّا ؟ وَيَكُونُ الْمَعْنَى : لِمَ سَمَّيْتَهُ بِذَلِكَ وَلِمَ حَكَمْتَ بِهِ عَلَيْهِ ؟ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَمَلُوا الْإِضْلَالَ عَلَى
[ ص: 131 ] الْحُكْمِ وَالتَّسْمِيَةِ .
وَثَالِثُهَا : أَنْ يَكُونَ الْإِضْلَالُ هُوَ التَّخْلِيَةُ وَتَرْكُ الْمَنْعِ بِالْقَهْرِ وَالْجَبْرِ ، فَيُقَالُ : أَضَلَّهُ : إِذَا خَلَّاهُ وَضَلَالَهُ ، قَالُوا : وَمِنْ مَجَازِهِ قَوْلُهُمْ : أَفْسَدَ فُلَانٌ ابْنَهُ وَأَهْلَكَهُ وَدَمَّرَ عَلَيْهِ : إِذَا لَمْ يَتَعَهَّدْهُ بِالتَّأْدِيبِ ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ
الْعَرْجِيِّ :
أَضَاعُونِي وَأَيَّ فَتًى أَضَاعُوا لِيَوْمِ كَرِيهَةٍ وَسَدَادِ ثَغْرِ
وَيُقَالُ لِمَنْ تَرَكَ سَيْفَهُ فِي الْأَرْضِ النَّدِيَّةِ حَتَّى فَسَدَ وَصَدِئَ : أَفْسَدْتَ سَيْفَكَ وَأَصْدَأْتَهُ .
وَرَابِعُهَا : الضَّلَالُ وَالْإِضْلَالُ هُوَ الْعَذَابُ وَالتَّعْذِيبُ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=47إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=48يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ) [ الْقَمَرِ : 47 ، 48 ] ، فَوَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ضَلَالٍ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَذَابَهُمْ ، وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=71إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=72فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=73ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=74مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ) [ غَافِرٍ : 71 : 74 ] ، فُسِّرَ ذَلِكَ الضَّلَالُ بِالْعَذَابِ .
وَخَامِسُهَا : أَنْ يُحْمَلَ الْإِضْلَالُ عَلَى الْإِهْلَاكِ وَالْإِبْطَالِ كَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=1الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ) [ مُحَمَّدٍ : 1 ] ، قِيلَ : أَبْطَلَهَا وَأَهْلَكَهَا ، وَمِنْ مَجَازِهِ قَوْلُهُمْ : ضَلَّ الْمَاءُ فِي اللَّبَنِ : إِذَا صَارَ مُسْتَهْلَكًا فِيهِ ، وَيُقَالُ : أَضْلَلْتُهُ أَنَا : إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ بِهِ فَأَهْلَكْتَهُ وَصَيَّرْتَهُ كَالْمَعْدُومِ ، وَمِنْهُ يُقَالُ : أَضَلَّ الْقَوْمُ مَيِّتَهُمْ : إِذَا وَارَوْهُ فِي قَبْرِهِ فَأَخْفَوْهُ حَتَّى صَارَ لَا يُرَى ، قَالَ
النَّابِغَةُ :
وَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ وَغُودِرَ بِالْجُولَانِ حَزْمٌ وَنَائِلُ
وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=10وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) [ السَّجْدَةِ : 10 ] ، أَيْ أَئِذَا انْدَفَنَّا فِيهَا فَخَفِيَتْ أَشْخَاصُنَا ، فَيُحْتَمَلُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى : يُضِلُّ اللَّهُ إِنْسَانًا ؛ أَيْ يُهْلِكُهُ وَيُعْدِمُهُ فَتَجُوزُ إِضَافَةُ الْإِضْلَالِ إِلَيْهِ تَعَالَى عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الْخَمْسَةُ إِذَا حَمَلْنَا الْإِضْلَالَ عَلَى الْإِضْلَالِ عَنِ الدِّينِ .
وَسَادِسُهَا : أَنْ يُحْمَلَ الْإِضْلَالُ عَلَى الْإِضْلَالِ عَنِ الْجَنَّةِ ، قَالَتِ
الْمُعْتَزِلَةُ : وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ تَأْوِيلًا بَلْ حَمْلًا لِلَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ ، فَإِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُضِلُّهُمْ وَلَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ عَنْ مَاذَا يُضِلُّهُمْ ، فَنَحْنُ نَحْمِلُهَا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُضِلُّهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ ، ثُمَّ حَمَلُوا كُلَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ عَلَى هَذَا الْمَحْمَلِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ
الْجُبَّائِيِّ ، قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=4كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ) [ الْحَجِّ : 4 ] أَيْ يُضِلُّهُ عَنِ الْجَنَّةِ وَثَوَابِهَا . هَذَا كُلُّهُ إِذَا حَمَلْنَا الْهَمْزَةَ فِي الْإِضْلَالِ عَلَى التَّعْدِيَةِ .
وَسَابِعُهَا : أَنْ نَحْمِلَ الْهَمْزَةَ لَا عَلَى التَّعْدِيَةِ بَلْ عَلَى الْوُجْدَانِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيَانُهُ ، فَيُقَالُ : أَضَلَّ فُلَانٌ بَعِيرَهُ ؛ أَيْ ضَلَّ عَنْهُ ، فَمَعْنَى إِضْلَالِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَجَدَهُمْ ضَالِّينَ .
وَثَامِنُهَا : أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ) مِنْ تَمَامِ قَوْلِ الْكُفَّارِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا الْمَثَلِ الَّذِي لَا يَظْهَرُ وَجْهُ الْفَائِدَةِ فِيهِ ، ثُمَّ قَالُوا : يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ، وَذَكَرُوهُ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ ، فَهَذَا مِنْ قَوْلِ الْكُفَّارِ ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى جَوَابًا لَهُمْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ) أَيْ مَا أَضَلَّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقَ . هَذَا مَجْمُوعُ كَلَامِ
الْمُعْتَزِلَةِ .