قوله تعالى : ( لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام متاع قليل ولهم عذاب أليم ) .
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما حصر المحرمات في تلك الأربع بالغ في تأكيد ذلك الحصر وزيف طريقة الكفار في الزيادة على هذه الأربع تارة ، وفي النقصان عنها أخرى ، فإنهم كانوا يحرمون البحيرة والسائبة والوصيلة والحام . وكانوا يقولون : ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ، فقد زادوا في المحرمات ، وزادوا أيضا في المحللات ، وذلك لأنهم حللوا الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله تعالى ، فالله تعالى بين أن المحرمات هي هذه الأربعة ، وبين أن الأشياء التي يقولون : إن هذا حلال وهذا حرام - كذب وافتراء على الله ، ثم ذكر الوعيد الشديد على هذا الكذب ، وأقول : إنه تعالى لما بين هذا الحصر في هذه السور الأربع ، ثم ذكر في هذه الآية أن الزيادة عليها والنقصان عنها كذب وافتراء على الله تعالى وموجب للوعيد الشديد - علمنا أنه لا مزيد على هذا الحصر ، والله أعلم .
المسألة الثانية : في انتصاب الكذب في قوله : ( لما تصف ألسنتكم الكذب ) وجهان :
الأول : قال الكسائي والزجاج : "ما" مصدرية ، والتقدير : ولا تقولوا لأجل وصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام ؛ نظيره أن يقال : لا تقولوا : لكذا كذا وكذا .
فإن قالوا : حمل الآية عليه يؤدي إلى التكرار ؛ لأن قوله تعالى : ( لتفتروا على الله الكذب ) عين ذلك .
[ ص: 106 ] والجواب : أن قوله : ( لما تصف ألسنتكم الكذب ) ليس فيه بيان كذب على الله تعالى ، فأعاد قوله : ( لتفتروا على الله الكذب ) ليحصل فيه هذا البيان الزائد . ونظائره في القرآن كثيرة ، وهو أنه تعالى يذكر كلاما ثم يعيده بعينه مع فائدة زائدة .
الثاني : أن تكون "ما " موصولة ، والتقدير : ولا تقولوا للذي تصف ألسنتكم الكذب فيه هذا حلال وهذا حرام ، وحذف لفظ " فيه " لكونه معلوما .
المسألة الثالثة : قوله تعالى : ( تصف ألسنتكم الكذب ) من فصيح الكلام وبليغه ، كأن ماهية الكذب وحقيقته مجهولة ، وكلامهم الكذب يكشف حقيقة الكذب ويوضح ماهيته ، وهذا مبالغة في وصف كلامهم بكونه كذبا ، ونظيره قول : أبي العلاء المعري
سرى برق المعرة بعد وهن فبات برامة يصف الكلالا
والمعنى : أن سرى ذلك البرق يصف الكلال ، فكذا ههنا ، والله أعلم .
ثم قال تعالى : ( لتفتروا على الله الكذب ) المعنى : أنهم كانوا ينسبون ذلك التحريم والتحليل إلى الله تعالى ، ويقولون : إنه أمرنا بذلك . وأظن أن هذا اللام ليس لام الغرض ؛ لأن ذلك الافتراء ما كان غرضا لهم ، بل كان لام العاقبة كقوله تعالى : ( ليكون لهم عدوا وحزنا ) [القصص : 8] . قال الواحدي : وقوله : ( لتفتروا على الله الكذب ) . بدل من قوله : ( لما تصف ألسنتكم الكذب ) ؛ لأن وصفهم الكذب هو افتراء على الله تعالى ، ففسر وصفهم الكذب بالافتراء على الله تعالى ، ثم أوعد المفترين ، وقال : ( إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ) . ثم بين أن ما هم فيه من نعيم الدنيا يزول عنهم من قريب ، فقال : ( متاع قليل ) قال الزجاج : المعنى : متاعهم متاع قليل ، وقال : بل ابن عباس ، ثم يردون إلى عذاب أليم ، وهو قوله : ( متاع كل الدنيا متاع قليل ولهم عذاب أليم ) .